تمكّن الأجداد والأسلاف من مواجهة الحياة بظروفها القاسية، ومواجهة القيظ ولهيب فصل الصيف. وحين أتأمل كل ذلك، أرسل لهم دعائي بالرحمة، إنهم فعلاً كانوا مخلصين لهذه الأرض الطيبة، متمسكين بها ويعشقونها، فاحتملوا حرارة الصيف اللاهبة، بوسائلهم البسيطة التي اخترعوها من البيئة ذاتها.
ومن هنا، يتجلى أن الموروث ليس فقط بعض العادات والتقاليد والطقوس، بل أيضاً تجارب حيّة، شكّلتها مواجهات الإنسان الإماراتي مع الطبيعة، حتى أصبحت عنواناً لهويته وقدرته على التحدي.
كثيراً ما يسألني الإخوة المقيمون على أرض الإمارات الطيبة: حقاً كيف كانت الحياة تحتمل قبل ظهور النفط و«المكيفات» في الصيف؟ وأسعد دائماً بالإجابة: بفضل الله، تمكن أجدادنا، في عموم مناطق الإمارات، من تطويع الظروف، وابتكار حلول مناسبة، فصمموا بيوتهم بما يتناسب مع بيئتهم، حيث كانت البراجيل تمتص الهواء، وتحوله إلى نسيم بارد، وحوّلوا مواسم الصيف إلى أفراح ومهرجانات، يتباركون فيها بالرطب، ويجتمعون على الظل والذكريات.
أسس الأسلاف ومن بعدهم الأجداد، صيف الإمارات، بسواعدهم وتقاليدهم، وزيّنوه بقيمهم وروحهم. كان القيظ بالنسبة لهم امتحاناً للقدرة على التأقلم، فحوّلوه من فصل العناء، إلى موسم للثمر والبركة والاجتماع العائلي.
في المناطق الساحلية، حين كانت درجات الحرارة تلامس أقصى مداها، واجه الناس القيظ بالعزيمة، فشدّوا الرحال إلى المقيظ، وابتكروا مساحات للراحة والتأقلم في رحلة سُميت بالحِضارة، فتتحول المناطق الزراعية إلى مراكز اجتماع وذاكرة، يلتقي فيها الجميع على ظل نخلة، أو عند سفرة تمر. أما أهل البر، فيتوجهون إلى الواحات، حيث تنتشر أشجار النخيل، وتتوفر المياه العذبة، وهناك، عند ظلال النخيل ومراعي النحل، ولدت لحظات الهدوء والحكاية، واكتسبت الحياة نمطاً جديداً، يُعيد التوازن بين الإنسان والمكان.
الانتقال الموسمي إلى المقيظ، نُظر إليه كجزء من دورة الطبيعة، وخطوة واعية في مسار الانسجام مع البيئة. الكِرْيان، صاحب الإبل، تولّى مسؤولية الترحال. العائلات تجهّز مؤنها: التمر، السحناه، الطحين، المالح، وغيرها من ضروريات الحياة الريفية المؤقتة. الأطفال عاشوا التعلم بالتجربة، والنساء ساهمن في الاقتصاد المنزلي، بينما توجّه الرجال للزراعة أو الغوص.
بيوت العريش، المشيدة من سعف النخيل، كانت أكثر من مأوى. كانت منظومة معمارية، تمثل عبقرية المكان وروح الساكن. في هذه البيوت، جرت الأحاديث، وتُليت الأشعار، وتكوّنت الذاكرة الجمعية، ونضجت القيم.
كل تفاصيل المقيظ كانت درساً في الاكتفاء الذاتي. النخلة تصدّرت المشهد، والرطب كان نجم الموسم. وبهذه العلاقة، جاءت مهرجانات الرطب لاحقاً في أبوظبي ودبي والذيد وعجمان، لتستمر النخلة في الحضور، كمصدر غذاء ورمز للكرامة والوفرة.
صيف الإمارات، من وجهة نظري، وبعيداً عن تلك القلة التي تشد الرحال إلى أوروبا، موسم يتجدد كل عام، مناسبة للترابط والتجدد المجتمعي. فمبادرات مثل «البراحة»، التي تستعرض طقوس الصيف، تُمكّن الأجيال من إعادة التعرف إلى أصولهم. وتتجاوز هذه الفعاليات التوثيق نحو صناعة حوار حيّ بين الأجيال حول الهوية والانتماء.
الصيف في الإمارات فصلٌ للذائقة، فمشروبات مثل عصير التمر والجامي واللبن، ظلّت جزءاً من تقاليد الضيافة، تُبرّد الحرارة، وتُنعش الحوارات، وتُجمل اللقاءات.
في المقيظ، تتفتح الحكايات، وتُحفظ الأعراف، وتُمارس الحرف اليدوية، مثل السدو والخوص، وتُتناقل القصائد التي أنشدها شعراء التراث في مدح القيظ وكرمه. وتظهر مظاهر التشارك المجتمعي، حين يُخزّن الرطب في «المسطاح»، ويجتمع الناس في «العريش»، ويغدو القيظ فصلاً للتماسك الوطني.
القيظ، بكل ما فيه من تعب المناخ، تحوّل في الإمارات إلى فصل من العطاء الثقافي. فالصيف الذي مثّل زمن العمل والكدح، أصبح الآن موسماً للاحتفاء بالهوية، تستثمر فيه المؤسسات والجهات الحكومية لترسيخ مفهوم المواطنة الثقافية، وتوظف فيه المدارس والمناهج والمخيمات الصيفية، لتربية جيل يعشق أرضه، ويتقن لغتها.
القيظ كان مناسبة لالتقاء الناس في مناطق النخيل، يُصنع من سعفها البيوت، وتُغزل من ظلها القصص. وكذلك أصبح المقيظ رمزاً للتعاون، حيث تلتقي العائلات، وتتبادل ثمارها وأخبارها، ويتقاسمون العمل والظل والملح.
في مناطق الظفرة والعين والفجيرة، كما في واحات ليوا والذيد، تبدأ رحلة «المقيظ»، حين تتفتح قلوب الناس، كما تتفتح النخيل. هذا الترحال تقليدٌ راسخ في إدارة العلاقة بين الناس والمكان.
لذلك نلاحظ بشكل عميق دائماً، أن الموروث في الإمارات يظل متداخلاً مع الإنسان وبيئته، يشكّل معها وحدة سردية متكاملة. ولهذا، فإن فعاليات مثل «بشارة القيظ»، قُدّمت بصفتها حكاية وطن متجددة، تُروى كل عام.
وهكذا، يصبح الصيف موسماً لهوية تتكلم، وثقافة تعيش، وأصالة لا تغيب، من نسيم الجبال إلى ظلال النخيل، ومن الرطب إلى قصص الجدات، ومن المقيظ الواقعي، وحتى إلى المقيظ الرقمي هذه الأيام. دعونا نتذكر ذلك، أن هذه الموروث العظيم، الذي يستحق كل حفظ وحماية وتكريم، كان ثمرة جهود الأجداد والأسلاف، الذين واجهوا الحياة في أقسى أيامها وظروفها وقيظها، فنقشوا في سجل التاريخ أجمل وأروع موروث عرفته البشرية جمعاء.