تهتم الصحافة والمعلقون والدارسون للعلاقات الدولية بالقضايا التي تستقطب الانتباه مثل الحروب والعنف الداخل والعابر للحدود والتغيرات السياسية وغيرها من المواضيع التي تجذب الأضواء. جميع هذه المواضيع مهمة وتستحق الاهتمام.

ولكن الديناميكيات التي تؤدي إلى كثير من هذه الأخبار والمواضيع المثيرة لا تعطى أهمية إلا من قبل المتخصصين في المجال ذاته. الاقتصاد الدولي يعد المحرك لكثير من هذه الأحداث، وفهمه جيداً يفسر لنا الكثير من التداعيات التي تبرز عناوينها في الإعلام.

قبل الولوج في الموضوع يلزمنا التفريق بين ثلاثة مفاهيم متقاطعة في مجال الاقتصاد الدولي، ولكن لها مدلولات مختلفة، الأول الاقتصاد الدولي والذي يعنى بدراسة كل ما يتعلق بالاستثمارات والتجارة الخارجية وأسعار صرف العملات والشركات العابرة للحدود، وإلى ما هنالك من علاقات اقتصادية دولية، وهو تخصص دقيق ومهم وتبنى عليه سياسات دول.

المفهوم الثاني والذي ظهر حديثاً هو الجيواقتصادية، وهو مفهوم يقصد منه استخدام أدوات اقتصادية مثل الحظر الاقتصادي أو توجيه الاستثمارات والمساعدات الخارجية لتحقيق مآرب جيوسياسية، وقد انتشر هذا الحقل الدراسي بعد الحرب الباردة، وانطلاق العولمة كمجال مهم ورديف للدراسات الجيوسياسية.

المفهوم الثالث والذي يرتبط ارتباطاً عضوياً بالمفهومين السابقين هو الاقتصاد السياسي الدولي، مجال هذه الدراسات يتعلق بترابط الاقتصادي مع السياسي، أي ما أثار التغيرات الاقتصادية على السياسة سواء كانت داخلية أو خارجية.

هذه القضايا المتعلقة بالاقتصاد السياسي الدولي لها نتائج على كل الدول حتى تلك التي لم تندمج بالاقتصاد الدولي، ولعل أهم هذه القضايا ما يسمى معامل التبادل التجاري، ويتعلق هذا المفهوم بنسبة معادلة المنتجات من الدول الصناعية والدول النامية.

وقد فطن الاقتصادي الأرجنتيني، راول پريبيستش، منذ منتصف القرن الماضي إلى حقيقة مهمة وهي أن الصادرات من المواد الأولية إلى العالم الصناعي ينخفض قيمته بالنسبة للصادرات الصناعية من العالم الأول إلى العالم الثالث.

وأن استمرار تدهور أسعار المنتجات من العالم النامي مع تزايد أسعار المنتجات من العالم الصناعي، أدى بالضرورة إلى تدهور الأحوال المعيشية والاقتصادية لهذه الدول. وقد انخفضت أسعار المنتجات الزراعية من العالم الثالث بنسبة 70 % بالمقارنة مع أسعار المنتجات المصنعة في الأعوام ما بين 1961 إلى 2001.

ومن الطبيعي تحت هذه الظروف الاقتصادية أن تدفق رؤوس الأموال من الدول النامية لم تتوقف للحظة. وقد عزز هذا التحويل المهول للرساميل من الدولة النامية إلى الدول المتقدمة انتشار كثير من الشركات العملاقة العابرة للحدود.

ورغم كثير من الفوائد التي جلبتها هذه الشركات من استثمارات والتي خلقت كثيراً من الوظائف في البلدان النامية ونقلت كثيراً من المعارف التكنولوجية، إلا أنها في نهاية المطاف أخذت أكثر مما أعطت، ولم يكن لها ذاك التأثير في خلق نقلة نوعية في التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

بالعكس من ذلك، فقد أدى هذا إلى زيادة الاعتماد من قبل الدول النامية على الدول المتقدمة، كما تزايدت الهوة بين الدول المتقدمة والدول المتخلفة بأضعاف مضاعفة. ولكن كما يقول المؤرخ البريطاني إي. ايتش. كار، ذو النزعة الواقعية، بأن الإنتاج يحتاج إلى حماية وأن التبادل الاقتصادي يعتمد على نظام سياسي.

وفعلاً قامت الولايات المتحدة بصفتها الدولة المهيمنة على النظام الدولي، بإنشاء منظمات دولية مثل الأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، لحماية العلاقات الاقتصادية الدولية .

والتي تصب في مصلحة الدول المتقدمة. ولم تكتفِ بالمنظمات الدولية وحسب، بل صاغت خطاباً سياسياً واقتصادياً يروّج النمط الاقتصادي الذي يحبذ دول الشمال على حساب دول الجنوب الأقل تقدماً.

وقد عظمت هذه الدول من سيطرتها على النظام الاقتصادي والسياسي الدولي عبر إنشاء سلسلة من القواعد العسكرية وشبكة من المؤسسات الأمنية الدولية للتدخل لحماية المصالح الاقتصادية.

كما حصل مع محمد مصدق في إيران في 1953، وسلفادور ألليندي في تشيلي في 1973 وأمثلة أخرى. الخلاصة أن فهم تعقيدات العلاقات السياسية لا يمكن أن تجتزأ بالنظر إلى العناوين الجاذبة، وإغفال البنى التحتية المحركة للسياسات العالمية.