من مفارقات التاريخ أن بريطانيا، صاحبة وعد بلفور عام 1917، تقدم على الاعتراف بدولة فلسطين. زئير الجغرافيا يحدث زلزالاً أوروبياً بمقياس فرنسا التي قررت على لسان رئيسها، إيمانويل ماكرون، الاعتراف بفلسطين الدولة في سبتمبر المقبل.

التوقيت فارق، وجبال القلق تلف خرائط المنطقة والإقليم والعالم. جدران الصبر بدأت تتهاوى على صخرة مؤتمر نيويورك الذي انعقد في الأمم المتحدة برعاية المملكة العربية السعودية، ومشاركة فرنسية. تحرك وحراك غير مسبوق عبر ثمانية عقود مضت.

حل الدولتين بات معبراً إلزامياً للوصول إلى استقرار العالم، لدرجة أن رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، وبعد اجتماع استثنائي للحكومة، أكد أنه سيقدم على الاعتراف بدولة فلسطين ما لم توقف إسرائيل حربها على غزة، وتفتح المعابر أمام تدفق المساعدات الإنسانية دون عوائق، وتنخرط في محادثات سلمية جدية لوضع حد للنزاع الفلسطيني – الإسرائيلي.

هنا وقفة.. لها ذات المفارقة التاريخية والدلالة الجغرافية؛ إذ إن بريطانيا هي الدولة الثانية في «مجموعة السبع» التي تعترف بالدولة الفلسطينية بعد فرنسا، والرابعة في مجلس الأمن من بين الدول الخمس دائمة العضوية. باريس نجحت في خلق حراك جماعي أوروبي.

15 دولة مقدمة على خطوة الاعتراف بدولة فلسطين، وهي: أستراليا، وكندا، وفنلندا، وفرنسا، والنرويج، وإسبانيا، والبرتغال، وآيرلندا، وسلوفينيا، ولوكسمبورغ، ومالطا، ونيوزيلندا، وآيسلندا، وسان مارينو، وأندورا.

نحن أمام حشد غير مسبوق لإيقاف الأخطار بمفهومها البعيد، وأمام لحظة انكشاف على صراعات قادمة من الماضي وأطماع متسارعة نحو المستقبل، وتصادم خرائط يعيشه الحاضر، ربما يقود كل هذا إلى حرب عالمية تعصف بالمفهوم التقليدي لما يسمى قوى المحور والحلفاء المتوقعين. رياح الخطر أدركتها القوى الساعية للسلام وفق حسابات المنطق لا حسابات التغول، وفق قوة السلام لا سلام القوة.

لذا شارك في مؤتمر نيويورك 125 دولة، وعدد كبير من المنظمات الدولية والإقليمية، كالاتحاد الأوروبي، وجامعة الدول العربية، وما يزيد على 40 وزير خارجية، رغم التحديات الكبرى والتعقيدات العميقة في الحسابات.

إن الاعتراف بدولة فلسطين قادم هذه المرة وفق ديناميكية سياسية شاملة، تهدف إلى الاندماج والتعايش ورفض العنصرية وجرائم الحرب والإبادة، ووضع حد لتجاوز الأعراف والقوانين والاتفاقيات الدولية.

إن تدافع الأمواج الأوروبية نحو حل الدولتين إنما يضعنا أمام شهود تاريخيين من الشاطئ الثاني الذي تسبح في مياهه إسرائيل. ولعلي أتذكر هنا المفكر السياسي الأمريكي، نعوم تشومسكي، الذي طرح مصطلح حل الدولتين في وسائل الإعلام الأمريكية عقب حرب 5 يونيو 1967، ودفع ثمن ذلك انتقادات وتهديدات بالقتل.

يرتكز حل الدولتين، في مختلف المبادرات والمسارات المتعلقة به، إلى إيجاد دولتين: فلسطينية، وإسرائيلية، تعيشان جنباً إلى جنب، بحدود مستندة إلى الرابع من يونيو 1967، لا سيما أن حل الدولتين مشروع بنيوي ومحوري للسياسة الخارجية لكثير من الدول الغربية إزاء المنطقة، والخطوة الرئيسة لوضع حد للصراع المستمر منذ عقود، ويلقي بظلال سوداء ومخيفة على مفهوم التعايش في العالم.

أخيراً أقول: إن فكرة حل الدولتين لم تُطرح للمرة الأولى في مؤتمر نيويورك الذي عقد الأيام الماضية، بل كانت قاب قوسين أو أدنى من تحقيقها بعد اتفاق أوسلو عام 1993، بما يقود إلى تطبيق قرارَي مجلس الأمن 242 و338.

لكن ذلك لم يحدث بفعل تدافع ذاكرة الأوهام التوسعية لإسرائيل، منذ مشروع الصحفي النمساوي، تيودر هيرتزل، مؤسس الصهيونية الحديثة التي تهدف إلى حكم العالم بدءاً من فلسطين، ولكن في النهاية، يوماً بعد آخر، تثبت نظرية هيرتزل فشلها، وأنه من دون حل الدولتين، وإقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو عام 1967، سيظل جمر الحرب الإسرائيلية مشتعلاً حتى يحرق خرائط العالم.

ولذا فواجب على العالم، شعوباً وحكاماً، الاصطفاف خلف التدافع العالمي غير المسبوق للاعتراف بفلسطين الدولة، فلقد أعطى التاريخ كل الفرص، ولقد ضاقت الجغرافيا بمن يتلاعب بها.. والدواء الوحيد: حل الدولتين.