يمر الإنسان بوصفه جسداً وعقلاً بأحوال متعددة ومختلفة، وإذا تركنا جانباً أحوال الجسد المعروفة، والتي لا تنتمي إلى خياراتنا وإراداتنا تنتهي برحيله عن الحياة، فإن الإنسان وجود سابق على ماهيته التي تتكون بوصفه كائناً اجتماعياً يفكر ويتخذ المواقف ويكتسب المعرفة ويحدد أهدافه ويخلق معناه وتتغير نظرته إلى العالم، والحياة وفق خياراته الحرة فإننا هنا أمام الإنسان وهو يكتسب ماهياته عبر كل هذه الأحوال.
إذاً هو وجود يتكون دائماً من حيث المبدأ، وهذا معنى الإنسان وجود لذاته، وهب أن الإنسان تكون لمرة واحدة وظل هو هو من حيث الماهية، فإنه يصبح شبيهاً بالأشياء المادية التي لا تستطيع أن تغير وجودها، وهذا معنى الإنسان وجود في ذاته.
هذه المقدمة الضرورية للإجابة عن السؤال: هل نقوّم الإنسان انطلاقاً من ماهية ماضية له وننظر إليه على أنه ماهية ثابته؟، فالعبقري في التخطيط العسكري خالد بن الوليد مر بمرحلة الوثنية، ثم خاض كما تقول الروايات معركة أحد، التي انهزم فيها المسلمون وكان قائدها، ثم أسلم وصار سيف الله المسلول، وخاض حروب تحرير الشام والعراق من بيزنطة وفارس، ثم ساءه أن يموت على فراشه قائلاً كما تقول الرواية: كما يموت البعير فلا نامت أعين الجبناء، فوجوده تغير إذاً بتغير ماهيته، والحكم عليه تقويماً ارتبط بوصفه سيف الله المسلول التي مات عليها.
ويزداد السؤال تعقيداً حين نطرح مسألة مسار تغير عقل الإنسان وانتقاله من وعي كان عليه إلى وعي آخر مختلف، فالمجتمعات التي مازال مفهوم الحرية الشخصية غير حاضر في وعي أفردها للآخر تأخذ على الفرد تغير ماهيته الفكرية، وتقف عند لحظة من لحظات انتمائه العقلي والأيديولوجي.
كان الفيلسوف الفرنسي الراحل، روجيه جارودي، شيوعياً، بل وستالينياً، ثم شيئاً فشيئاً صار ماركسياً نقدياً، فأطلق عليه الشيوعيون ماهية جديدة وهي صفة تحريفي، ثم أسلم الرجل وأطلقوا عليه المرتد.
ها هو إذاً وجود إنساني يمتلك ثلاث ماهيات: شيوعي ستاليني، ماركسي تحريفي، إسلامي مرتد، وكلها صفات أيديولوجية للرجل، لكن الرجل رحل محتفظاً بماهيته الإسلامية، وكل ماهياته الفكرية السابقة مسطورة في كتب يمكن للقارئ أن يراه كما يشاء.
هل يمكن أن نغفر لإنسان ما ماهية من ماهياته إذا كانت ماهية شريرة؟، هل تنفي ماهيته الخيرة التي هو عليها الآن ماهيته الشريرة؟، إن الوعي الاجتماعي لا يستسيغ شخصاً ينطوى على ماهية شريرة في حياته، وبخاصة المجتمعات التقليدية، ولهذا تظل هذه الماهية نقطة سوداء في الذاكرة الجمعية، ذاكرة الحي السكني، ذاكرة المؤسسة، ذاكرة المدينة، ذاكرة المجتمع وهكذا، فمازال بعض فلاسفة الغرب يأخذون على الفيلسوف الألماني الأشهر، هيدجر مديحه للنازية، رغم أنه يبرر ذلك عندما كان رئيس جامعة أيام الحكم النازي، لكن ماهيته هي أنه فيلسوف الوجود الذي أثر بالفلسفة الغربية المعاصرة، لكن ما يلفت النظر في الموقف من الشخوص الفاعلة في التاريخ فكرياً أو عملياً في عالمنا العربي مازالوا عرضة للتقويم من زاوية غير موضوعية ومنحها ماهيات قد لا تعبر عن وجودها، وتجري الاختلافات حولها التي تصل إلى حد التضاد.
لعمري بأن أخطر ما ينتج عن وصف الأفراد تأسيساً على الأيديولوجيا هو ذلك الصراع غير المحمود حول صناع تاريخنا الحضاري المادي والفكر، ولأنه ثمرة موقف أيديولوجي مسبق فإن الماهيات الممنوحة لهم لا تمت إلى الأحكام الموضوعية المبرأة من العنصر الذاتي المسبق، واللافت للنظر أن بعض المؤرخين المعاصرين مازالوا ينطلقون من الانحيازات في تقويم صناع حضارتنا، بمنحهم ماهيات وفق انحيازاتهم، وليس من شيمة علم التاريخ أن يخضع لمثل هذا القيل الأيديولوجي، بل إن التاريخ، بوصفه علماً، يتوخى الدقة والموضوعية والنقد التاريخي للوثيقة.