تصاعد في الآونة الأخيرة صوت المناداة بشرق أوسط جديد، مطلباً ليس بالجديد في سياقات السياسات الدولية السريعة الاستجابة للمتغيرات في موازين القوى رغم الغموض الذي يحيط بحيثياته عنواناً وتفاصيل من جهة وشدة حساسية دول المنطقة إزاءه من جهة أخرى.
فهذه المنطقة من العالم كانت عبر التأريخ الذي نقرأ سطوره ونتفهم عمق تأثير ثقافاته وجدانياً على أجواء حياتنا اليومية في كل أنحاء العالم مصدراً لصناعة أيديولوجيات فكرية أغنت ثقافتنا بهذا الشكل أو ذاك ولا تزال مصدراً لتنظيم علاقات الإنسان بالعالم الغيبي الماورائي، رغماً عن الاختلافات في هذا الجزء أو ذاك، ومدى دلالاته في واقع حياتنا اليومية.
الحادي عشر من سبتمبر 2001 جاء ليذكر العالم بما هو منسي عن عالم يكمن في أطر ثقافاته كم كبير من القضايا التي تجاهل العالم أهمية حضورها على طاولة أبرز اهتماماته في إرساء قواعد سلم وأمن في هذه المنطقة التي تحظى باهتمام من لدن العالم أجمع.
ويأتي السابع من أكتوبر 2023 كثاني أكبر حدث يشد العالم ويلفت الانتباه بقوة إلى منطقة الشرق الأوسط وإلى نفس مشكلاتها المزمنة التي لم تعد تتموضع فيه.
للشرق الأوسط أهمية على أكثر من محور ربما لا تتوافر لمعظم مناطق العالم ماضياً وحاضراً خزيناً من القضايا تجعله منطقة ذات أهمية استراتيجية في السياسة الدولية مستقبلاً.
ففيه نشأت أقدم الحضارات التي رسمت خطوات الإنسان الأولى نحو المعرفة وفي أطلال خرائبه نشأت الديانات الإبراهيمية الثلاث التي لا يزال المليارات من سكان العالم يعتنق منها هذه أو تلك ويمارس صقوسها، وفي رحاب هذه المنطقة ولدت ونشأت ثلاث امبراطوريات أسهمت برسم ملامح التاريخ على مدى قرون عديدة من الزمن وهي الامبراطورية الساسانية وثم الامبراطورية العربية وأخيراً الامبراطورية العثمانية.
الشرق الأوسط ليس حزباً أو منظمة أو دولة يجري التعامل معه أو معها كمفاوض تقليدي فليس هناك من يحمل هذه الصفة، بل منطقة جغرافية كانت في أشد حالات الالتهاب في الماضي .
ولا تزال بما توارثته من خلافات في العقائد وبما حملته من ضغائن بمخرجاتها مصدراً لتكرار ما حدث، فهل المطلوب بترويج شعار شرق أوسط جديد أن تنزع هذه المنطقة من العالم رداءها الذي اعتادت عليه عبر آلاف السنين لترتدي رداء آخر يفرض عليها.
الأحداث الدموية التي شهدناها منذ السابع من أكتوبر 2023 ليست أحداثاً عابرة لسبب بسيط، فقد تجاوز الاهتمام بها من تجرع مباشرة مرارتها إلى الأسرة الدولية التي تضافرت جهودها للدعوة إلى إعادة تنظيم هذه المنطقة من العالم بما يجعل منها منطقة استقرار سياسي وأمني تسمح بالاستثمار في مشاريع دولية كبيرة تسمح الثروات الكامنة فيها وأهميتها في ربط الشرق الآسيوي بالغرب الأوروبي بذلك، وهو ما يطرح تساؤلات حول مدى تقبل دول المنطقة وتعدادها بالعشرات بفرض سياسات قد يجد ساستها حرجاً كبيراً في قبولها أمام الشعوب.
لا شك أن موازين القوى في المنطقة سواء على الأرض أو في الجو قد طرأ عليها الكثير من التغيير عما كانت عليه قبل السابع من أكتوبر 2023، مما يفرض بطبيعة الحال استحقاقات تتناسب مع هذا التغيير على أصعدة عديدة، سياسية واقتصادية وأمنية وربما يتجاوز ذلك كله إلى تغيرات في الخرائط الجغرافية، وهنا يمكن أن تشرع سياسات تستهدف دولاً بعينها في المنطقة بل بما يتجاوز ذلك.
ولعل من الضروري أن أشير إلى حقيقة أن هذه الدعوات التي أسميتها دولية لم تصدر عن أهم هيئة دولية وهي مجلس الأمن الدولي من جهة ولم تتشكل هيئة من دول المنطقة للتعامل معها من جهة أخرى، مما يعزز من حقيقة أن دعوات كهذه تواجه اللايقين في إمكانية تحقيقها على أرض الواقع في وقت قريب.
هناك نخب سياسية غربية ممن يهتم بمتابعة الوضع في الشرق الأوسط تطرح في سياق التعامل مع القضايا شائكة التعقيد في أوساطها بدائل لفرض الحلول بالقوة، عن طريق توظيف الأفكار الاقتصادية وما تمتلكها من مغريات ومن مرونة، لترطيب العلاقات بين دول المنطقة وتوثيق صلاتها بالاقتصاد العالمي.