كل هذا هو جزء مهم ومركزي في الحوار السياسي – المجتمعي – الفكري، الذي يدور من حين لآخر، سواء في مصر أو بين بعض من النخب العربية، منذ رحيل عبد الناصر قبل 55 عاماً، وعلى الأرجح، أنه سيستمر لفترات أخرى طويلة قادمة، دون أن يصل المختلفون لرؤية متفق حولها لما جرى، ولا إغلاق تام ونهائي لهذا الحوار.
ويكفي مثالاً لتأكيد هذا على صعيد مصر الداخلي، هو صور وشعارات عبد الناصر، التي رفعها مصريون كثيرون في ثورتي يناير 2011 ويونيو 2013، احتكاماً منهم لثورة يوليو، سواء في ما يرونه إنجازاتها الاجتماعية في الثورة الأولى، أو مواجهتها الحاسمة وراء عبد الناصر لجماعة الإخوان، ومحاولات هيمنتها على مصر.
وفضلاً عن هذا، فإنه على صعيد الثقافة السياسية المجتمعية، يمكن فقط الإشارة إلى مبدأين مركزيين، يعود ترسيخهما لثورة يوليو وقائدها، لا يزالان مستقرين، وهما انتماء مصر العربي، الذي لم يغب عن كل دساتير البلاد، وقواعد علاقاتها الخارجية، ومفهوم العدالة الاجتماعية المنوط بالدولة القيام بها، بغض النظر عن أي سياسات واقعية، قد تتعارض معه، ولا يؤيدها غالبية المصريين.
فقد أوضح هذا الجدال، في ظل ما يجري من عدوان إسرائيلي دموي على قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، وما تبعه من اعتداءات أخرى على دول عربية أخرى، مدى أهمية هذه الرؤية في الواقع الراهن، وحضورها وتأثيرها في أطرافه، بمختلف زوايا نظرهم لما يجري فيه..
فقد تحولت هذه التسجيلات بعد وفاة صاحبها بأكثر من نصف القرن، إلى أداة مهمة وأساسية لدى هؤلاء الفرقاء، يبحث كل منهم فيها، ويستخرج منها ما يدعم وجهة نظره، ويبرر موقفه تجاه ما يحدث من تطورات قيد التفاعل على هذا الصعيد.
ثلاثة أرباع القرن مضت على ثورة يوليو، و55 عاماً على رحيل قائدها، ولا يزال بعض من آثارهما العميقة قائماً وحياً في مصر ومحيطها العربي، كجزء مهم وبارز من الثقافة السياسية المجتمعية، أو الحوار العام حول قضايا راهنة.
لم يتكرر هذا الأمر أبداً طيلة تاريخ مصر الحديث، سوى مع ثورة يوليو وقائدها، بالرغم مما شهده خلال أكثر من قرنين من تطورات كبرى وأساسية، وقيادات عملاقة ونافذة. الأمر لا يتعلق بتأييد هذه الثورة أو رفضها، ولا بحب قائدها أو كرهه، بل ينصرف فقط إلى إقرار حقائق تبدو عصية على الإنكار.