يتجسد الاقتصاد في الإمارات كنظام تنموي مركب، ينبع من طبقات الهوية العميقة، ويستند إلى تفاعل حي مع المكان، ويُستمد من الذاكرة البيئية التي لم تنفصل يوماً عن تفاصيل الحياة اليومية.

أقولها بثقة من واقع تجربتي: إن اقتصادنا نهض وسيتطور ويرتقي لينافس دول العالم أجمع، لأن وراءه قيادة حكيمة رشيدة، ويستند إلى ذاكرة تراثية عريقة، بدأت في مجالس الأمهات، وأحاديث الجدات، ومن الروايات التي كنا نسمعها عن رجالات الغوص وتجار اللؤلؤ والخروج إلى البحر قبل الفجر، وزراعة النخيل والعناية بها، وتصنيع التمور وتغليفها وبيعها.

لقد سادت في البيئة الإماراتية أنماط إنتاج نشأت من الحكمة، وتشبعت بالانضباط الطبيعي الذي يدرك قيمة كل قطرة ماء، وكل سعفة نخيل، وكل خشبة تُستخدم في بناء السفينة. كان المجتمع يُنتج باقتدار، ويستهلك برشد، ويُفعّل أدواته اليومية انطلاقاً من وعي متراكم، تشكّل من الممارسة الشعبية، والتجربة الذاتية التي سبقت التوجيه المؤسسي.

بالطبع فإن الدولة اختارت أن تؤسس سياساتها على هذه التجربة المجتمعية العميقة، فرفعتها إلى مستوى الرؤية الوطنية المستدامة. تتشكل هذه الرؤية ضمن بنية مؤسسية تنسق بين القطاع الحكومي والخاص والأكاديمي، وتتجلى في استراتيجيات وطنية متقدمة، مثل «الحياد المناخي 2050»، و«خطة دبي الحضرية 2040».

وتتجه هذه الاستراتيجيات إلى خفض الانبعاثات، وتحسين كفاءة الطاقة، مع العمل على إعادة هندسة العلاقة بين الإنسان والموارد ضمن نظام متكامل.

الاقتصاد الدائري في الإمارات يتقدم بكفاءة تتجاوز الحسابات التقنية، ويعتمد على إعادة هيكلة سلوك الاستهلاك، وإنتاج اقتصاد يبتكر من التحدي فرصة، ويحوّل النفايات إلى طاقة، والمخلفات إلى موارد. من واقع ملاحظاتي، فإن التجربة الإماراتية تعتمد على تدوير الأشياء، وإحياء المفاهيم، وتجديد أنماط التفكير، فتمنح الحياة اليومية أفقاً بيئياً جديداً.

تتسع مجالات الابتكار لتشمل التقنيات الحديثة، والتصميم العمراني، وصناعة الموضة، وحتى الفنون المعاصرة. وأقترح من هنا مبادرات ثقافية جديدة تربط الصناعات الإبداعية بمفاهيم الاقتصاد الدائري، مثل أن تُعاد صياغة الفخار الإماراتي باستخدام نفايات الطين المعالج، وأن تُستثمر النفايات الورقية في أعمال الخط العربي، وأن تُستخدم بقايا الأقمشة في إنتاج لوحات تراثية تُعرض في المدارس والمتاحف. إن إشراك الفنانين والحرفيين في دورة الإنتاج المستدام يُضفي بُعداً إنسانياً وثقافياً على الاقتصاد.

من واقع تجربتي الطويلة في رصد التحولات الاجتماعية والثقافية، يمكنني القول إن التعليم يُشكّل المنصة الأهم لترسيخ هذا الوعي. ويُدرج الاقتصاد الدائري في المناهج بصفته مادة علمية، ويترجم في الورش العملية، وتحديات التصميم، ومشاريع التدوير المدرسية.

ومن الأهمية بمكان أن يُطلب من الطلاب توثيق الحكايات العائلية التي تشرح كيف كانت الجدات يصنعن الطعام من بقايا الخبز، أو كيف كان الأطفال يصنعون ألعابهم من الخشب والحصى، فبهذا فقط نربط المستقبل بجذور هذه الذاكرة الحية.

تمت دعوتي لحضور الجلسة الحوارية الرابعة التي تنظمها مجموعة عمل الإمارات للبيئة، بالتعاون مع المجلس الأعلى للطاقة في دبي، في أغسطس المقبل، وستطرح الجلسة الحوارية رؤى متنوعة، وتفسح المجال لمشاركة المتطوعين والشباب وصناع القرار ضمن بيئة معرفية تشاركية. ولأنني أتابع هذه الموضوعات عن كثب، أسعدتني الدعوة لنتحدث كيف يمكننا تحويل المفهوم البيئي من مبادرة تخصصية إلى ثقافة يومية، تُعيد تعريف فكرة المواطنة البيئية نفسها.

سيمضي الاقتصاد الدائري في الإمارات كإطار أخلاقي واقتصادي في آنٍ معاً، وسيمنح القطاعات الحيوية، مثل الطاقة، والبناء، والصناعة، قدرة على التكيف مع التحولات، وتأسيس أنظمة إنتاج تراكمية قائمة على الإبداع في إدارة الموارد. وتتوسع هذه المقاربة لتشمل الصناعات الصغيرة، والأسواق المحلية، وتتيح مجالاً رحباً لريادة الأعمال التي تستثمر في الاستدامة كقيمة مضافة.

من مقترحاتي السابقة مثلاً «إنشاء مصنع للتراث الإماراتي»، وآمل أن يرى النور قريباً، ولكني أيضاً أقترح إنشاء منصات مجتمعية رقمية توثق قصص الاقتصاد الدائري التراثية: كيف يُدير الصيادون نفايات البحر؟ كيف يعاد تدوير التمور التالفة؟ كيف تُنظم الأحياء مبادرات تبادل الأدوات؟ وتحمل هذه القصص دلالات عميقة على الوعي البيئي، وتشكل مادة معرفية تسهم في بناء ذاكرة اقتصادية جماعية.

في كل ذلك، تبدو الإمارات وكأنها تُعيد تعريف الفعل التنموي عبر عناصر من موروثها، وتُعيد تشكيل العالم من خلال أدوات ذات طابع محلي وروح كونية.

وحين تندمج السياسة البيئية مع الثقافة، ويجد الاقتصاد موطئ قدم في الحكاية الشعبية، تتحول الاستدامة إلى مشروع وطني طويل الأمد، يُكتب في الأجيال القادمة كما يُوثق في المخططات.