لا يزال التأمل في الركود العربي، يأخذ وقتاً كبيراً من تفكير الذين كلفوا أنفسهم بهذه المهمة.. وسبب ذلك أن الأسئلة المطروحة لفهم التاريخ، لم تكن من الدقة التي من شأنها أن تنجب أجوبة عقلية، أو فهماً أدق لواقع الحال.

لا يزال الكثير من الكتاب العرب يرددون حتى هذه اللحظة سؤال شكيب أرسلان الساذج: لماذا تقدم الغرب وتخلفنا؟. لماذا كان سؤال شكيب أرسلان ساذجاً؟ لأنه أراد أن يبحث عن علة تخلفنا في اكتشاف علة تقدم الغرب، وإذا ما اكتشفنا علة تقدم الغرب، فإننا نكتشف سبيلنا إلى التقدم.

وتزداد سذاجة هذا السؤال بسذاجة الجواب، لأن الجواب ينطوي على إرادوية لا يمكن أن تنجب واقعة أوروبياً في عالمنا آنذاك، فكيف لإرادة أن تعيد عصر النهضة الأوروبية والانتصار على الكنيسة ولاهوتها الحاكم، وتعيد نشوء البرجوازية وثوراتها، وتعيد الليبرالية التي أسست للانتقال إلى الديمقراطية.

كيف لإرادة أن تستغل أكثر شعوب العالم بفعل قدرتها على الاستعمار. إن البحث عن علة تقدم الأوروبي، لا يقود إلى اكتشاف العلة الداخلية لتخلف العربي، بل إلى فرض علة من الخارج للتغير.

كما أن البحث في أرشيف فلاسفة العرب والمسلمين في العصر الوسيط، مثلما فعل أحفاد ماركس من أهل العربية، عن أجوبة حول التقدم، لا يقل سذاجة عن سؤال أرسلان، بل هو إلى البله أقرب. فكيف يمكن لمفاهيم ومقولات وترسيمات أنتجها الماضي السحيق، أن تتحول إلى جهاز معرفي لفض العالم المعيش؟

دون السؤال عن البنى الراهنة السائدة وتاريخ تكونها واستمرارها وتحولاتها، لا يمكن أن تتمتع الإجابات بمصداقية معرفية، وبالتالي، تزويدها بوعي عقلي للواقع.

وحده الوعي العقلي المطابق للواقع، يزود الإرادة بقدرة إنجاز ما يمكن إنجازه. كل إرادة لا تتصالح مع الممكن التاريخي، الذي يولد من داخل البنية التي نريد تدميرها، إرادة هبلاء، مهما دفعت من ثمن باهظ.

إذ تنطوي حركة التاريخ على جملة ممكنات يختزنها في داخله، دون أن ننسى أنه رحم للمصادفات. إن من شأن العقل الواقعي أن يرصد هذه الممكنات، ويتوقع تحقق هذا الممكن أو ذاك، تقديراً منه بتوافر حظ من الشروط.

وقد يخطئ ويتحقق أضعف الممكنات، ويمكن أن تموت كل الممكنات التي توقع وجودها في رحم التاريخ، بفعل قوة خارجية، كالغزو والاحتلال والاستعمار والحرب، فالحرب العالمية الأولى، نتج عنها زوال الدولة العثمانية، لكن تقسيم بلاد الشام لم تخطر على بال أحد، بفعل بريطانيا وفرنسا.

وقد تموت الإمكانات بفعل سلطة غاشمة عنفية، قادرة على إبادة الإرادات ووظيفتها في ولادة الممكنات.. لكن أحداً لا يستطيع أبداً رصد المصادفات وتوقع حدوثها، ورب مصادفة واحدة، غيرت مجرى التاريخ، إما إلى الوراء أو إلى الأمام.

وهذا يعني أن درجة اليقين بمآلات حركة التاريخ ضعيفة، ويرتب هذا الوعي بحركة التاريخ، تعليق الأحكام اليقينية المرتبطة بما يسمى حتمية مسار التاريخ، دون أن ننفي توقع حزمة الاحتمالات..

فعين الرضا وعين السخط، وعين التأييد وعين الرفض، وعين الحب وعين الكره، هذه العيون لا تنجب معرفة تاريخية ووعياً تاريخياً بالواقع ومآلاته.. والتحرر من هذه العيون، يقود إلى الموضوعية المنزهة عن الغرض والمصلحة والأيديولوجيا والنزعة الطوباوية.

لقد آن لنا أن نكون جادين مع الواقع ومسار التاريخ، أن نكون جديين حتى مع مزحاته المزعجة.

والحق من النادر أن يتناول الوعي التاريخي مزحات التاريخ المزعجة، ومزحات التاريخ المزعجة، هي تلك التي لم تخطر على بال، وتؤسس للمأساة التي يقف وراءها عقل أرعن.. والكوارث إذا ما حصلت، فإن التعافي منها يحتاج إلى زمن طويل.