يبدو للوهلة الأولى أن مصطلح السيادة على المستوى السياسي الدولي جوهر مطلق طرأ عليه الكثير من التغيير منذ ورد للمرة الأولى في أقدم اتفاقية دولية عقدت في أوروبا، اتفاقية ويستفاليا عام 1648.

مصطلح أحيط على مر عقود من التنظير بهالة قدسية لا يجوز المساس بها أبعدتنا عن التعرف على الأدوار التي تلعبها المتغيرات الإقليمية والدولية في لي عنق المصطلحات والمفاهيم من خلال التأمل العميق في تداعيات السياسات التي ترسم الواقع المتفجر بالأزمات في العالم أجمع، والذي يتجلى في أشد صوره عنفاً في منطقة الشرق الأوسط..

إذ لا يسعنا أن نتناسى في سياق التطرق إلى مصطلح السيادة ما أنتجته تداعيات الحربين العالميتين الأولى والثانية من تأثيرات عليه، خصوصاً بعد أن أخضع ميثاق الأمم المتحدة الذي صدر بعيد الحرب العالمية الثانية، بنوده وحصر السيادة عالمياً بما يصدر عن مجلس الأمن الدولي الذي يتكون من خمس دول فقط.

لا يخفى على المتابعين للشأن العراقي على مدى العقدين الأخيرين من السنين أن يتوصلوا إلى قناعة بأن الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة الأمريكية بما يجري في العراق وفي أوساطه السياسية من حراكات غير ودودة بل كارهة ومعادية اتجاهها لا يرقى إلى مستوى ما توقعه القادة الأمريكان في موقع صناعة القرار في ضوء ما قدمته الإدارة الأمريكية منذ العام 2003، فالولايات المتحدة قد تكبدت خسائر جسيمة عسكرياً في عملية تغيير النظام السابق وفي السنوات التي أعقبت ذلك.

في سياق ذلك، من المحتمل بل من المؤكد أن يراجع القادة الأمريكيون نتاج ما وظفوه من سياسات وما حصدوه من نتائج في واحدة من أهم مناطق العالم وفي بلد قد يعتبر أحد أبرز بلدانها إن لم يكن أبرزها جميعاً وهو العراق.

فقد استثمرت واشنطن الكثير من نفوذها السياسي والدبلوماسي والعسكري والمالي في عملية التغيير لنظام الحكم في العراق في العام 2003 وفيما أعقبه، فبالرغم من مرور ما يزيد على عقدين من الزمن على التغيير تستمر العملية السياسية التي هندستها واشنطن في التراجع .

وتتضاءل وتتشوه باستمرار القيم الديمقراطية التي أتيحت في الدستور لمواطنيه بسبب الدور الكبير الذي تلعبه الأحزاب السياسية الإسلامية المعروفة بولاءاتها الإقليمية والمدعومة محلياً بميليشيات مسلحة تعيد هيمنتها على مداخل ومخارج العملية السياسية في كل دورة انتخابية..

وتتباين في ضوء ذلك الطروحات حول ما إذا كانت الولايات المتحدة موفقة في اختيار حلفائها في بناء عراق جديد بل يتجاوز التساؤل إلى مدى كفاءة مستشاريها الأمنيين على فعل ذلك.

ولعل من المناسب القول في سياق تقويم السياسة الأمريكية في العراق أن نشير إلى حقيقة أن الولايات المتحدة لا شك راغبة في أن يكون لها دور يتناسب على الأقل مع ما قدمته من خدمات لحلفائها الذين أتت بهم إلى سدة الحكم، إلا أنها تنتهج سياسات غير ناجحة ولا نريد أن نقول سياسات فاشلة تتميز بالتردد في اتخاذ قرارات حاسمة.

وربما يعود ذلك إلى أن الملف العراقي ليس في يد جهة واحدة تتباين مواقفها من هذه القضية أو تلك، فهو على طاولة وزارة الخارجية وعلى طاولة البنتاغون وطاولة وزارة الخزانة في آن واحد، كما كان الحال منذ اليوم الأول لغزو العراق.

من المرجح أن العديد من مشكلات العراق وأزماته السياسية والاقتصادية التي تتجلى في تراجع العملية السياسية وغياب حقيقي لمبدأ فصل السلطات عن بعض، ومع تعمق الخلافات بين بغداد وأربيل والفشل في التصدي لملفات الفساد المالي والإداري التي وضعتها الإدارات المتعاقبة في أولوياتها لا يمكن من تبرأ واشنطن عن قدر من المسؤولية عنها.

الولايات المتحدة تمتلك حالياً في منطقة الشرق الأوسط ومنذ السابع من أكتوبر 2023 من النفوذ ما لم تمتلكه في أي وقت مضى على مختلف المستويات سياسياً ودبلوماسياً وعسكرياً، فلديها مفاتيح الدخول بقوة إلى مشكلاتها بقدرات لا تضاهيها قدرات أية قوة أخرى في العالم.

ومن الطبيعي في ضوء ذلك أن ينعكس على سياسات دول المنطقة وبشكل خاص على العراق الذي تسيطر واشنطن على أجوائه وتمتلك مفاتيح التحكم بعائدات تصدير نفطه.

وعطفاً على ما ورد في السطور الأولى من هذا المقال حول مصطلح السيادة لا ريب أن دول المنطقة ستأخذ هذه المتغيرات بأقصى درجات الجدية حين ترسم استراتيجياتها على المدى القريب بشكل خاص.