إن الصيام من العبادات العظيمة التي فرضها الله تعالى لغاية تشريعية حكيمة، ومقصد رباني جليل، ألا وهو تربية التقوى في نفوس المسلمين. وقد أشار إلى ذلك المولى جل شأنه بقوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [سورة البقرة:183].
والتقوى خير زاد يتزود به المرء استعداداً للقاء ربه عز وجل، فهي العدة الوافية، والجنة الواقية، قال تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [سورة البقرة:197]. وأصل التقوى كما قال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله: أن يجعل العبد بينه وما يخافه ويحذره وقاية تقيه منه، فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه، وغضبه، وسخطه، وعقابه وقاية تقيه من ذلك، وهو فعل طاعته، واجتناب معاصيه.
والصيام من أكبر أسباب التقوى لأنه سر بين العبد وربه، وبه يدرب الصائم نفسه على مراقبة الله تعالى، حيث يترك ما تهوى نفسه من الشهوات المباحة الميسورة مع قدرته عليها، امتثالاً لأمر الله تعالى واحتساباً للأجر عنده، فتتربى بذلك إرادته على ملكة ترك الشهوات المحرمة والصبر عنها، فيكون اجتنابها أيسر عليه، وتقوى على النهوض بالطاعات والقربات والاصطبار عليها.
والتقوى محلها القلب، والقلب ملك الجوارح والأعضاء، فإذا استيقظت التقوى في القلب، فإنها تسري إلى سائر الجوارح، فيصوم اللسان عن الكلام في الحرام، وتصوم العين عن النظر إلى الحرام، وتصوم الأذن عن سماع الحرام، وتصوم اليد عن البطش في الحرام، وتصوم القدم عن الخطوة إلى الحرام.
والصيام يورث التقوى؛ لما فيه من قهر النفس وكبح جماحها، وتضييق مجاري الشيطان فيها، والصائم يجتهد في الصبر والصفح والكف عما وجه نحوه من سب أو شتم أو اعتداء، ويعينه على ذلك تذكره لحقيقة «إني صائم»، وفي ذلك وقاية من الوقوع في المنكرات أو الشبهات، وحماية من مجاراة السفهاء أو المعتدين، وأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بقوله: الصيام جنة، فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم مرتين، [رواه البخاري].
وعندما تتحقق التقوى في القلب، وتفيض آثارها على الجوارح، يجني المؤمن ثمارها اليانعة في الدنيا قبل الآخرة. وأشار القرآن الكريم إلى بعض ثمراتها العظيمة، ومنها قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ [سورة التوبة:4]. ومنها قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾ [سورة الجاثية:19]. ومنها قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾ [سورة النحل:128].