عرفته قبل أكثر من 35 سنة، عندما التقيته في أمسية رمضانية في المقر القديم لجمعية «دبي الخيرية»، في شارع الرقة، حيث كان وقتها مديراً عاماً للجمعية.
كان «بوسعيد» مشغولاً مع أصحاب الحاجات الذين قدموا إلى الجمعية، ومعهم أوراقهم ومستنداتهم وفواتيرهم، طلباً للمساعدة. فهذا يريد مساعدة إيجارية، وآخر معه فاتورة الكهرباء عجز عن سدادها، وآخر يبحث عن تكملة رسوم الدراسة لأبنائه، والكل يسأل عن شخص واحد فقط، هو أمين الخاجة.
عندها عرفت أن هذا الرجل يتميز بصفة، تجعل كل هؤلاء المراجعين يرتاحون في التعامل معه، التقيته، وقدمت له حالة إنسانية بحاجة للمساعدة، ولم يقصر معهم، بعد دراسة حالتهم المعيشية.
وهكذا استمرت علاقتي معه طوال هذه السنوات، انتقل بعدها للعمل كمدير لمؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للأعمال الخيرية والإنسانية، وعضواً في اللجنة المنظمة لجائزة دبي الدولية للقرآن الكريم، ثم انقطع لفترة عن العمل الإداري فقط، لكنه لم ينقطع عن العمل الخيري، الذي كان يسري في دمه.
كانت ثقة أهل الخير ورجال الأعمال به كبيرة، فكانوا يطلبون منه توزيع زكواتهم وصدقاتهم على المستحقين، كما كان تجار المواد الغذائية يسلمونه كميات كبيرة من هذه المواد المتنوعة، لإيصالها إلى الأسر المستحقة، وقد رافقته عدة مرات أثناء التوزيع، فكان يستأجر السيارات الكبيرة ويملأها بالمواد الغذائية، ثم يختار في كل يوم منطقة من المناطق، لإيصال خيرات المحسنين لهم، وفق قوائم بالأسماء الموجودة لديه، والتي كان قد أجرى لها بحثاً اجتماعياً، وتأكد من حاجتها، وعندما كان أبناؤه وإخوانه من المتطوعين يطلبون منه الاستراحة، لأنهم سيقومون باللازم، كان «بوسعيد» يبتسم، ويقول: تريدون الأجر لكم فقط.. تريدون حرماني من الأجر.
كان، رحمه الله، يصر على حمل أكياس الأرز والدقيق والسكر وصناديق الزيت والمعلبات على ظهره، حباً في عمل الخير والاجتهاد فيه، طلباً للمثوبة من الله عز وجل.
بعدها أنشأ هو ومجموعة من أهل الخير، مؤسسة «تراحم الخيرية»، والتي اتخذت من فيلا صغيرة في منطقة الراشدية الجميلة بدبي، مقراً لها، ومنحته دائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري بدبي، الترخيص اللازم لمزاولة العمل الخيري، ليعمل تحت إشراف دائرة حكومية، وضمن القوانين والأنظمة الخاصة بمزاولة العمل الخيري.
كان المكان صغيراً، ولكن العمل المنجز كان كبيراً جداً، بقدر طموحات «بوسعيد»، وحبه للخير… وكيف لا تحقق المؤسسة إنجازات كبيرة، وهناك من يتابع عملها يومياً، حيث كان «بوسعيد» يحرص ألا يبقى لديه مبلغ من المال، إلا ويوصله إلى مستحقيه.
وعندما كان حساب الزكاة والصدقات يخلو من أي مبالغ، كان كثيراً ما يصرف من جيبه الخاص على أصحاب الحاجات الضرورية، التي لا تتحمل التأخير، كانت فلسفته في العمل الخيري، أن ينهي معاناة صاحب الطلب، ويقول: ماذا تفعل الـ 5 آلاف في شخص حاجته الفعلية إلى 50 ألفاً، فكأنك أوصلته إلى ربع الطريق أو نصفه، وتركته وحيداً، فلا هو يستطيع أن يرجع، ولا هو يستطيع أن يكمل الدرب، فالأصل أن تلبي حاجته كاملة، إذا تأكدت من استحقاقه المساعدة، الكلام عن رجل الخير، وأبو المساكين، أمين الخاجة، يطول، والمواقف الخيرية والإنسانية التي عايشناها معه كثيرة جداً.
كان المعروف عنه، الابتعاد عن الشهرة، ولم يكن يحب الظهور الإعلامي، وكان يقول: نحن نبحث عن رضا الله والدار الآخرة، ولا تهمنا أقلام تكتب عنا، أو كاميرات تقوم بتصويرنا، أو جوائز وشهادات شكر وتقدير تمنح لنا. ودائماً كان يطلب من الله أن يرزقه الإخلاص في القول والعمل.
لهذا، أحبه الجميع، وحزنوا على رحيله، وذرفت عيون الذين ساعدهم ووقف معهم يوماً ما. وعندما سمعوا خبر وفاته، كانوا يبتهلون إلى الله بالدعاء، بأن يغفر له ويرحمه، ويسكنه الفردوس الأعلى من الجنة. في سنوات عمره الأخيرة، أصيب بمرض كان يتطلب منه السفر للخارج للعلاج، والبقاء لفترات طويلة، لكنه كان يتابع من المستشفى الذي كان يتلقى فيه العلاج.
يتابع مع زملائه وموظفيه في المؤسسة، ويحول لهم الحالات التي كانت تصله عبر الهاتف.. وعندما يعود من رحلة العلاج، تجده منذ الصباح الباكر في مكتبه بمبنى مؤسسة «تراحم» الخيرية، يتابع الحالات، ويوجه بدراستها والصرف لها، ويتواصل مع التجار ورجال الأعمال والمصارف وأهل الخير، لدعم المؤسسة بما يمكنها من أداء دورها تجاه الملفات الكثيرة التي تمت دراستها، وبانتظار الدعم المالي للصرف.
وإذا شعر بالتعب، تجده يأخذ قسطاً من الراحة على كرسي الضيوف الموجود في مكتبه، ليعود بعدها لإكمال عمله الذي يعشقه. خدمة الناس، والتيسير عليهم، وتلبية حاجاتهم، ويستمر لساعات متأخرة من المساء، ثم يتابع العمل بعدها عن طريق هاتفه المتحرك.
فلا تتعجبوا من كثرة المعزين، وكثرة المبتهلين إلى الله بالدعاء له بالمغفرة والرحمة، وفي صلاة الجنازة، ووقت الدفن، تجمع المئات من أهله وأقاربه وأصدقائه، وعدد ليس بالقليل ممن مد لهم يد العون والمساعدة في يوم من الأيام.
رحم الله أخي وصديقي، أمين الخاجة، وجعل الجنة مقره وسكنه.ِ