لأنهم لم يروا نظرة اليأس التي لمحتها في أعين أمهات يسعين مع أطفالهن المتفردين باحتياجاتهم الخاصة بحثاً عن اختصاصيين يحكمون ضميرهم في تلبية تلك الاحتياجات بصدق وأمانة بعيداً عن المبتغى المادي والتجاري، ومن دون استغلال للضعف والحاجة؛ لم يشجعني على قراري منهم أحد.
لم أكن أتوقع أن ينهال علي هذا الكم الهائل من ردود الفعل والمكالمات والرسائل التي هاجمت قراري باختيار مجال التربية الخاصة منذ إعلان نتائج الثانوية العامة قبل عام والتي حققت فيها تفوقاً، تلقيت قدراً كافياً من تلك الكلمات التي أوحت لي لوهلة بأن قراري ذنب لا يغتفر، وكأنني ارتكبت خطأ في حق نفسي حين اخترت مجالاً أحببته وآلمني واقعه، فآمنت حينها بأنني سأمتلك قدرة الإسهام في تطويره للأفضل، لأن شغف القراءة والبحث والدراسة فيه كان ومازال وسيظل يشغلني.
كلماتهم تلك دفعتني للبحث والسؤال، استنرت بآرائهم وبالزوايا التي ينظرون لها، فمررت على الكثير من قصص الناجحين في مجالاتهم وآخرين كان الفشل حليفهم، لأكشف الفارق بين النقيضين، استمعت إليهم، قرأت عنهم، بحثت حولهم وتحاورت مع بعضهم، حتى أدركت بأن سر الفارق بينهم كان كامناً في معرفة أنفسهم وتقدير اهتماماتهم، ولو لم يجدوا من يثني عليهم ويربت على أكتافهم تأييداً وفخراً عند خط البداية.
لا أدعي بأنني تمسكت بزمام القوة طوال تلك الفترة التي واجهت فيها ذلك الاستنكار، لم يكن وقع أثر تلك الكلمات التي تلقيتها على نفسي عادياً، كادت لتهدم ما شيدته من مستقبل رسمته مخيلتي إذا ما أصغيت إليها بتمعن أكثر وأنا ما زلت في أول الطريق، ولم أغترف بعد من بحر هذا العلم سوى قطرة، أعدت الإصغاء إلى كلماتهم لأجعلها حافزاً للمضي في مشوار أدرك منتهاه وغايته، والتوفيق من رب العالمين.
سنرتكب جرماً بحق أنفسنا حين لا نقدر قيمة رغباتنا ونعيش حياة نُسجت تفاصيلها بأيادي غيرنا، نعم قد نصل إلى ما أراده غيرنا أن نصل إليه، وسنرى حينها من سيصفق لنا بحرارة، من سيسعد بإنجازنا، ولكن سيظل صوت في دواخلنا يهمس لنا بأننا لم نستحق هذا التصفيق، سيصفق لنا جميع من حولنا، ولكننا لن نصفق لأنفسنا، لأننا دمرنا أحلامنا بتلبية رغبات غيرنا، سنظل نلوم أنفسنا، وسيأتي اليوم الذي سنتخلى فيه عن ما أراده لنا الآخرون لنعود إلى نقطة البداية، لنعود للحلم الذي رسمناه في مذكرات شبابنا، للشغف الذي كان يشغلنا.
إلى طالب الثانوية العامة الواقف على أعتاب باب التخرج، كن على يقين بأنك ستجد من ينتقد مجالك الذي اخترته أياً كان، انتق آراء الناجحين من ذوي الخبرة والتجارب في مجال شغفك واستنر بها، وتغاضى عن كلمات اليأس المحبطة التي قد تصل إليك من الكثير ممن حولك، سيكون لوقعها أثر سلبي على نفسك إن أصغيت إليها، هي مجرد كلمات قد تدخلك في دوامة من الخوف والحيرة والصراع الداخلي الذي لا يهدأ، هي مجرد كلمات بمقدورها أن تقتل، تقتل أحلامك، تقتل آمالك، بمقدورها أن تقتل ثقتك وشغفك، تقتل ما قد سعيت لبنائه عمراً، تقتله في لحظة، إذا ما أصغيت لها وآمنت بها.
إلى طالب الثانوية العامة، أنصت للصوت الداخلي الذي في نفسك، أنصت إلى رغباتك باهتمام وثق بها، وفتش عن شغفك، فتش عن المجال الذي ترغب في النهل من نهر علمه، وتؤمن بأنك ستحدث فيه التغيير الذي تراه مهماً، وستبهر به من حولك لتثبت لهم بأن تشبثك بالحلم والأمل لم يكن وهماً، وليكون حينها شاهداً على أن الاختيار النابع من القلب برغبة وقناعة صادقة هو سر النجاح، هو ما ستكون مستعداً لتعطيه وقتك، وجهدك، وطاقتك، وعلمك بحب، هو ما ستكون مستعداً لتهبه عمرك.
إلى طالب الثانوية العامة، كن على ثقة بأن ما لامس قلبك، وما صدقت له نيتك، سيهديه له عقلك إلى ألف باب وباب للوصول، فليس فرضاً عليك أن تخطو بحذافير خطوهم لتعيش قصص نجاحات مكررة، بل تفرد بقصة نجاح جديدة تستحق أن تروى تفاصيلها في الكتب الملهمة.