كثر الحديث والجدل ومازال حول وسائل التواصل الاجتماعي ما لها وما عليها، وهو إن دل فإنما يدل على أن لها تأثيراً يتعاظم يوماً بعد يوم، كما أنه في الوقت ذاته دلالة على حالة من الوعي المجتمعي بأهمية وضع استخداماتها على المسار الصحيح، وبخاصة أن التعامل معها أصبح جزءاً أصيلاً من طقوس حياتنا اليومية، والتعامل معها أصبح عادة لدى الغالبية العظمى من مستخدمي الإنترنت.
ومن غير الممكن أن نغفل الدور الكبير الذي أسهمت به وسائل التواصل الاجتماعي في تنمية الجانب المعرفي لدى الفرد بسرعة وآنية، للدرجة التي يستطيع أن يكون فيها جزءاً من الحدث أو في موقع القلب منه، ومن مصادر متعددة وزوايا مختلفة كانت المؤسسات الإعلامية الرسمية هي المصدر الأساس لها..
كما أنها أسهمت في توثيق علاقات الفرد القائمة وتوسيع شبكة العلاقات الاجتماعية بشكل غير مسبوق، للدرجة التي يمكن أن تقول فيها إنه أصبح هناك من الأشخاص لديهم القدرة على التأثير في جمهور كبير عبر تلك الوسائل دون الارتباط بزمان أو مكان، ذلك أنه أصبح بإمكان كل فرد أن يعبر عن رأيه ويشرك الآخرين في النقاش حوله دون بذل جهد، مما أتاح المجال لاكتساب خبرات حياتية جديدة كان من الصعوبة بمكان اكتسابها دون هذا الوافد الجديد.
غير أن الحضور الطاغي لهذه الوسائل وخاصة في الجانب الاجتماعي قد يجعل الفرد يكتفي بها بديلاً عن التفاعل الحقيقي، فيحادث عبرها، ويقوم بالواجبات الاجتماعية عبرها، فيكتفي بتهنئة رقيقة في المناسبات السعيدة أو مواساة طيبة عند الشدائد، ويقنع بتكوين صداقات افتراضية، يحادث الغير طوال الوقت، ويعتقد أن الناس حوله كثر، فإذا ما جاء الخطب وجد نفسه وحيداً..
واكتشف الحقيقة المرة أن الواقع الافتراضي لم يغن شيئاً عن العلاقات الحقيقية، وبخاصة أن الافتراضية ليس لها تبعات في حين أن الواقعي منها يحتاج إلى بذل وعطاء سواء بالوقت أو الجهد أو المال. كما أن الاستخدام غير الواعي لهذه الوسائل أدى في أحيان كثيرة إلى انعدام الفصل بين ما هو عام وما هو خاص، وأصبحت التجارب الشخصية والمسائل الخاصة محط أنظار الناس جميعاً بيدي لا بيد عمرو..
وبعد أن كان انتهاك خصوصية الأفراد فعلاً مجرماً قانوناً أصبح الأفراد أنفسهم يقدمون على التعامل مع الخاص باعتباره شأناً عاماً، وقد يمس أناساً لا ذنب لهم، فتلك الفتاه التي أقدم زميلها على طلب يدها على مرأى ومسمع من الناس في الجامعة وتم تصوير ذلك ونشره ووضع أسرتها التي هي صاحبة الشأن الأصيل في موضع المتفرج.
وكذلك الزوج الذي يكتب لزوجته اعتذاراً أمام الملأ لخلاف دب بينهما بعد أن كان شأناً داخلياً خالص. كما أنه يمكن أن يرتبط بها الدخول في حوارات مع مجموعات مختلفة في موضوعات غير مأمونة العواقب، وبخاصة أنك لا تعرف عن ما تحادثه غير ما يريد هو أن يقدم به نفسه، وتظل حقيقة الأشخاص وصفاتهم والأهداف التي يسعون إليها ملتبسة على النقيض من الواقع الحقيقي..
كما أنه قد يحدث خلل في إدراك الفرد لذاته وللأخرين من حيث المبالغة في تقديم نفسه للغير، الأمر الذي قد يصيبه بأمراض نفسية واجتماعيه، كما أن المشكلات التي تتعلق بالاندفاع نحو أطراف افتراضية، وهو ما يؤثر على درجة اندماج الفرد مع أسرته الصغيرة فيبدو أن هناك بيتاً لكن ليس هناك أسرة بمعناها الآسر والمترابط، ويبدو أفرادها وكأنهم شذرات متناثرة تحت سقف واحد..
وما يحدثه ذلك من أثر على الصحة النفسية للفرد ومتانة العلاقة الأسرية، ناهيك عن اللغة الجديدة التي يستخدمها بعض الشباب وهي رموز غريبة الشكل وما تمثله من أثر على لغتنا الأصيلة ومدى إلمام الأجيال الجديدة بمفرداتها وما يفرزه ذلك من انحدار في المستوى اللغوي.
وإذا كنا تحدثنا طويلاً عن قوة وسائل الإعلام التقليدية في التنشئة الاجتماعية وأنها كما الأسرة تربي فإنه قد أصبح واقعاً أن وسائل التواصل الاجتماعي أيضًا، بما تحمله من أفكار وقيم وسلوكيات، مصدر لا يستهان به في هذا الشأن، بل وفي تعزيز أو خلخلة المعايير الاجتماعية، تبعًا لسلامة استخدامها وتوظيفها.
وما يستحق التوقف أن هذه الوسائل التي كانت سبباً في تعزيز التواصل بين الأفراد هي ذاتها صنعت حاجزاً بين جيل الآباء والأجداد وجيل الشباب النهم في التعامل معها واستقاء الكثير من قيمه وأفكاره من خلالها وجيل آخر لم يعتد عليها وقد لا يملك مهارة استخدامها.
إن ما يحدث من تقدم للبشرية، وبخاصة في مجال الاتصال، لا يمكن معه العودة إلى الوراء فتلك سنة كونية، غير أنه يجب أن يكون هناك درجة كبيرة من التوعية، والمقصود بالتوعية هنا أي التوعية بالاستخدام الآمن والإيجابي لتلك الوسائل، والتعريف بأفضل مجالات استخدامها والإفادة منها..
كذلك أن تكون وسائل التواصل وأخلاقيات التعامل معها صنوان لا يفترقان، وأن يتكامل دور الأسرة مع دور المؤسسات التعليمية في هذا الشأن، ولا شك أن التجربة كذلك كفيلة بتنقية ذاتها وطرد الخبث منها.