يتقدم العالم في العمر سريعا، وأنا لا أتحدث عن الأرض تحت أقدامنا، فمعدلات المواليد بالنسبة للبشرية بأكملها تقريبا آخذة في الهبوط. وفي الواقع، فإن ما يقل عن 20% من دول العالم، تشهد الآن نموا في تعدادها السكاني، وفقا لتقارير وكالة المخابرات المركزية الأميركية، والدول الأخرى إما لديها تعداد سكاني مستقر أو آخذ في الانخفاض، وتتنوع أسباب ذلك كما تتنوع عواقبه المحتملة.. ولكن لنتحدث عن الحقائق أولا.

تقع الدول التي تشهد معدلات المواليد الأقل على مستوى العالم، في آسيا. وفي حين أن "متوسط معدل الإحلال" الذي يسمح لمستويات السكان بأن تبقى مستقرة، لا يقل عن 2,1 طفل لكل زوجين، شاملا الشابات اللاتي يتوفين قبل سنوات تربية الأطفال، فإن متوسط معدلات الولادة في كل من سنغافورة وماكاو وهونغ كونغ وتايوان، يتراوح بين 0,78 و1,1 (وفي فيتنام يساوي 1,89).

وتقل معدلات الولادة في أربع وثلاثين دولة عن 1,5 طفل لكل زوجين، بما في ذلك كوريا الجنوبية واليونان واليابان وألمانيا. وبشكل عام، فإن 116 دولة فقط من بين 224 دولة، لديها معدلات خصوبة تساوي 2,1 أو أكثر.

ومن جهة أخرى، فإن الدول الإفريقية الواقعة جنوب الصحراء الكبرى، والتي تعاني من فقر مدقع، لديها معدلات المواليد الأعلى، بما في ذلك النيجر ومالي والصومال وأوغندا، حيث تنجب كل امرأة، في المتوسط، ما يتراوح بين 6 و7 أطفال. ويرجع إنجاب الأسر في البلدان المتخلفة للكثير من الأطفال، بشكل أساسي إلى عدم توفر وسائل منع الحمل بسهولة. وفي الوقت نفسه، فإن معدلات وفيات الأطفال في تلك البلدان تعتبر مرتفعة للغاية 10,4% في الصومال، على سبيل المثال - مما يدفع الأمهات إلى مواصلة الإنجاب لضمان بقاء بعض أبنائهن، على الأقل، على قيد الحياة.

أين تقف الولايات المتحدة؟ تحت معدل الإحلال بقليل؛ بمعدل 2,06 ولادة لكل زوجين. وتستقبل الولايات المتحدة من المهاجرين ما لا تستقبله أي دولة أخرى، معززة تعدادها السكاني. ومع ذلك، فإن معدل النمو السكاني العام بالنسبة للأميركيين، مع أخذ الولادات والوفيات بعين الاعتبار، لا يزيد الآن على 0,9، وهو آخذ في الهبوط.

وإحدى عواقب ذلك أن صناعة الحليب الأميركية تشهد أزمة، إذ انخفض استهلاك الحليب بنسبة الثلث منذ عام 1975. وتقول وزارة الزراعة الأميركية، إن عدد الأطفال الأميركيين أقل كثيرا من أن يدعم هذه الصناعة.

وتعود قلة الإنجاب في دول رغيدة مثل الولايات المتحدة، بشكل جزئي إلى عدم رغبة المزيد من النساء في أخذ إجازة من العمل لإنجاب الأبناء. وعلاوة على ذلك، فإن تكلفة إنجاب الأطفال، من سنوات الرعاية حتى سنوات الكلية وما بعدها، يمكن أن تكون مرعبة، لا سيما الآن وقد ركدت الاقتصادات الغربية أو غرقت في الركود منذ فترة طويلة.

والعاقبة الأكثر وضوحا، هي تزايد عدد المسنين في معظم الدول المتقدمة، مما يؤدي إلى ارتفاع تكاليف التقاعد والرعاية الصحية وغيرها، في ظل تضاؤل عدد العاملين القادرين على دفع ثمن كل ذلك.

ومما يزيد المشكلة سوءا، ارتفاع متوسط العمر المتوقع على امتداد العالم، حيث نشرت مجلة "لانسيت" الطبية البريطانية مؤخرا، دراسة موسعة تظهر أن متوسط العمر حول العالم ارتفع بواقع 10 أعوام منذ عام 1970. وتلك وثبة كبيرة إلى الأمام، ولكنها تترك أيضا للجيل الأصغر سنا الآخذ في التضاؤل، مزيدا من سنوات رعاية المسنين ليدفعوا ثمنها.

وتتقدم اليابان على غيرها من الدول في هذا كله. ففي إحدى المدارس الابتدائية الواقعة في بلدة خارج طوكيو، لم يلتحق بالصف الأول سوى طفل واحد خلال العام الجاري، وذلك حسبما ذكرته صحيفة "نيويورك تايمز". وقد خدمت تلك المدرسة، في ذروتها في ستينات القرن الماضي، 1250 طالبا في المرحلة الابتدائية. أما في العام الجاري، فإن عدد الملتحقين بها لم يتجاوز 37 طالبا. وفي تلك البلدة، نانموكو، يبلغ 56% من السكان عامهم الخامس والستين أو أكثر. ويتوقع المحللون لمبيعات حفاظات الكبار في اليابان، أن تتجاوز عما قريب مبيعات حفاظات الأطفال الرضع.

ويعاني الاقتصاد الياباني من الركود منذ عقود، متسببا في عزوف البالغين عن إنجاب الأبناء. وبالنتيجة، فإن معدل النمو السكاني في اليابان يقع في المنطقة السلبية: -0,08.

ويقول علماء الديمغرافيا إن إجمالي التعداد السكاني العالمي سوف يستمر في الارتفاع خلال العقود المقبلة، ولكنه، في نهاية المطاف، سوف يبدأ في الركود والانخفاض، ربما في وقت لاحق من القرن الجاري. ويحمل ذلك التوقع بعض الفوائد، فقد يتبين أن تنبؤ البنك الدولي بأن إنتاج الطعام حول العالم سيحتاج إلى زيادة بنسبة 66% بحلول عام 2055، لا يمثل موضع إشكال بقدر ما كان متوقعا.

ومع مرور الوقت، فقد تنحسر الغازات الدفيئة وغيرها من الانبعاثات والملوثات الضارة. ومع ذلك، فإن الناس سيبادرون، في تلك الأثناء، إلى مغادرة بعض المدن الصغيرة، كما يحصل بالفعل في اليابان والصين (حيث لا يزيد معدل النمو السكاني على 0.48).

وينذر هذا كله بتحديات اقتصادية جسيمة ستشهدها العقود المقبلة، مع تقديم معظم الدول لعدد أقل من العاملين الشباب، بحيث ينخفض الإنتاج الصناعي وتميل نسبة العمال إلى المتقاعدين لصالح كبار السن، وكما تقول مجلة "إيكونوميست"، فإن "عددا أكبر بكثير من المسنين سيعتمدون على جيل أصغر وراءهم".

وبالإضافة إلى ذلك، فإن أسواق الإسكان ستنهار، والاقتصادات ستعاني في ظل تقلص الشركات، تماما كما يحدث لصناعة الحليب الأميركية اليوم.

وكل هذا يقول لنا: إننا في طريقنا إلى عالم مختلف جدا.