المتتبع لحالة السيولة السياسية المتدفقة في جمهورية مصر المحروسة، سيدرك أن الله سبحانه وتعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. فالمصريون في هذا المنعطف التاريخي، أمام سباق انتخابي رئاسي يقام للمرة الأولى بعيداً عن مهزلة فوز الحزب الوطني، وفي ظل إسقاط تام لمادتي الدستور 76 و77، اللتين طالما وقفتا في وجه أي رغبة في كسر احتكار الحزب الحاكم لمنصب الرئيس، حيث كان يوصف كل خصوم الرئيس السابق بالحالمين، لأنهم لم ولن يستطيعوا حلحلة الأمر الواقع أو إحداث فارق بسيط في الحياة السياسية.
ولكن يمكن القول إن العلامة الفارقة في مراحل التغيّر السياسي الذي حدث، وقبل قيام الثورة، يعود فضله إلى الالتفاف الشبابي على شخصية البرادعي، ورهانه على الأغلبية الصامتة آنذاك، وتحديه بخوض انتخابات 2011 والوقوف ضد ولاية سابعة لحسني مبارك. وقد حفز إصرار هذا الرجل على ضرورة المضي قدماً لإحداث انقلاب في مفهوم الاستسلام لسياسة الحزب الحاكم والقبول بالتوريث، والرفض العلني لإسكات صوت الشباب الناشط في اتجاه تحريك الساكن من الأمور، والذي لعب دوراً كبيراً في تجييش الإرادة الشعبية عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
ولا يمكن أن ننسى نظرة البعض للبرادعي آنذاك، ورغم رغبتهم الأكيدة في فوزه إلا أنهم أدركوا في النهاية أنه فعلياً لا يحمل عصا موسى للقضاء على «فرعون مصر»، بل بعضهم كان برغماتياً جداً في تقييم وضع البرادعي في ظل حالة مصر مبارك، فقال قولته الشهيرة «إن الطريق أمام الرئاسة مغلق»، والكلام الأخير يعود للمرشح الرئاسي عمرو موسى، الذي صدرته الثورة إلى قائمة المرشحين لمقعد الرئاسة، بعد أن كانت معادلة التفاؤل في مجرد تغيير الحزب الحاكم تساوي في نظره الرقم صفر، لكنه بين ليلة وضحاها أمسى الأكثر تفاؤلاً خارج لعبة الرئاسة، وأضحى المتشائم يراهن على فوزه في الانتخابات. ومن مفارقات هذه المرحلة أيضاً، أن مصر بشعبها العظيم وعلى غير العادة، لن تعرف من هو رئيسها القادم حتى اللحظة الأخيرة في عملية الفرز.
أما من ناحية المفارقات التاريخية التي حدثت في مصر، ولأول مرة في تاريخها الحديث، فقد كان وقوف اثنين من مرشحي الرئاسة في مناظرة جماهيرية، تستهدف الوقوف على آرائهم وبرامجهم وأجندة ومشروع كل منهما للمنصب لو فازوا في الانتخابات.
والمناظرة جرت فعليا بين المرشح عمرو موسى، والمرشح عبد المنعم أبو الفتوح، ولعلهما كانا الأكثر شعبية والأكثر قطبية، بل والأكثر اختلافا، ولعل المشاهد العربي اليوم قد أدرك بعد هذه المناظرة، أهمية المناظرات في توضيح أفكار المرشحين وحججهم وأسلوبهم، وذكائهم في التعامل مع الخصم.
وما شاهدناه من فوقيه ملحوظة لعمرو موسى ترافقها احترافية معهودة في الحوار، قابلها أبو الفتوح بروح قتالية قادرة على استعراض آرائه بثبات وإقناع. لكن في ختام المشاهدات يقع المتابع في الحيرة من جديد، فحتى هذه اللحظة تبدو على جميع المرشحين الطيبة والمثالية والوطنية، وكلهم دون استثناء يسعون لإقامة المدينة الفاضلة، كل على طريقته الخاصة، إلا أن التحفظات على توجهات المرشحين الفكرية والأيديولوجية، ستكون الورقة التي سترجح كفة مرشح دون آخر.
لكن يبدو أن البعض يريد لهذا المنصب أن يبقى خارج لعبة الإخوان المسلمين، وخارج دائرة وجوه النظام السابق، ومع ذلك فالمنصب في حد ذاته يظل فضفاضا على أغلب الأسماء التي طرحت نفسها كمرشحة لتبوئه، بل إن الأمر في رمته يظل ضبابيا، لأن مهام الرئيس القادم وحدود سلطته وصلاحياته تبقى منوطة بمواد الدستور الجديد الذي سيكتب في مرحلة لاحقة، في حين سيعمل الرئيس القادم ضمن صلاحيات ضيقة حددها المجلس العسكري في الإعلان الدستوري المؤقت، الذي أصدره بعد الثورة لإدارة المرحلة الانتقالية.
لكن المرحلة الانتقالية الثانية التي ستأتي مع رئيس جديد وفكر أيضا جديد، ستحتاج إلى دعم قوي، دستوري وشعبي، لأن الإصلاحات الداخلية التي ينتظرها الشعب كبيرة وطموحة، بل يمكن أن تتحول هذه القيود الجديدة للرئيس المنتخب إلى القشة التي ستقصم ظهر العملية الديمقراطية برمتها.
فكيف، من جهة يذهب الشعب ليختار رئيسا يمثل له بوابة الحلم والمستقبل، في حين أن هذا المنصب في حقيقة الأمر مكبل وفارغ من الصلاحيات المهمة؟ أما على صعيد العلاقات الخارجية ففي الوقت الذي ينتظر «غلابة مصر» تعديل أوضاعهم وإقامة عدالة اجتماعية ورفع الحد الأدنى للأجور، وحل أزمة السكن والمعيشة بشكل عام، فإن البعض يضع عينيه على أجندة المرشح الخارجية، وخاصة موقفه من قضية العلاقات المصرية الإسرائيلية في ضوء اتفاقية كامب ديفيد واتفاقية الغاز، وموقفه من الانفتاح على الدول غير العربية، خاصة وأن بعض المرشحين يفضلون الانفتاح نحو بناء علاقات متينة مع بعض الدول كإيران وتركيا، حتى ولو جاء ذلك على حساب المصالح العربية المشتركة.
لذا من الطبيعي أن المرشح سيكون محط أنظار المهتمين بثبات موقف مصر كزعيمة للعالم العربي، وإعادة إحياء دورها الإقليمي، بعيدا عن انسلاخات مستقبلية قد تضر هذه المكانة. السباق الانتخابي بات محموما، خاصة وأن الحوارات مع المرشحين لا تزال مستمرة، ولا يزال مصريو الداخل على موعد مع الانتخابات في الأسبوع الأخير من الشهر الجاري، فالفرصة لا تزال قائمة أمام إعادة قراءة مواقف ورؤى هؤلاء المرشحين. ولعل ما تلعبه وسائل الإعلام من دور كبير في تشريح المرشحين وتفنيد أجنداتهم، يثمن لها ويعيد الهيبة إلى هذا الإعلام الحر والعقول النيرة، ويواكب مناخ الثورة.