كلما حدثت مصيبة في العالم العربي، حاول الإنسان المقهور بطبعه إحالتها إلى نظرية المؤامرة، لدرجة أن أصبحت لهذا الشعور الباطني المسيطر، مدارس فكرية تؤيد وتؤكد في أغلب الوقائع والأحداث، أن هناك حكاية ما، وأياد خفية، وقوى شر، تحاول بكل ما أوتيت من نباهة، تجييش الأسباب، وتحطيم أية رغبة في تبسيط علامات الاستفهام المحيطة بالواقع، وقد لاحظنا هذا جليا في ثورات شعوب المنطقة. فحين وجد الحاكم نفسه محصورا في زاويته الضيقة، ارتفع صوت نهيقه بأن هناك مؤامرة، وكما يقول المثل الشعبي "يعني جاب الثعلب من ذيله"، فتجده يقلب كفيه يمنة ويسرة، فأحيانا العدو من الداخل، وأحيانا يشير للغرب، وتارة يلعن الظلام.. وينسى أن ينظر لداخله وفساد سريرته!
لذا تبقى التساؤلات ملحة ونحن نعيش زمن التغيير، فإلى متى تكبلنا هذه النظرية عن التعمق في جوهر الأمور، وتقبل فكرة التعددية والاختلاف كمبدأ أصيل غير قابل للتنازل؟ ومتى نتخلص من هذه العقدة النفسية التي جثمت على أنفاس الشعوب وكتمت حريتها؟ بل ووجدناها قد أطبقت على كثير من المشروعات الفكرية والثقافية، وأعاقت طويلا عملية الانفتاح الإنساني على الآخر، ولا تزال تسهم في تضييق التداخل والاندماج بين عناصر التخصص الواحد على مستوى الوطن الواحد، فما بالنا على مستوى العالم!
ولعل البعض يتفهم أكثر من غيره، مدى التأثير العظيم لهذه النظرية على الواقع العربي، لأنه تسنى له باكرا معاصرة المراحل التي تربعت فيه نظرية المؤامرة على عرش الحياة السياسية، بل كتبت التاريخ السياسي وأرشفت لانعطافات حادة في هذا التاريخ، فأصبحت جميع الهزائم العربية بسبب "فعل" المؤامرة، والذي تحدا "فعل" الانتصار وروحه. لذا يمكن أن نقرن بين تاريخ قيام الكيان الإسرائيلي في المنطقة، وبين تاريخ مصطلح "المؤامرة" في أدبيات السياسة العربية. ويمكن القول إن الساسة العرب وجدوا ضالتهم في هذه الشماعة، التي استوعبت ولا تزال كمية الفشل غير المتناهي لإهدار فرص بناء الدولة، وترسيخ أسس التنمية والعدالة، واستفحال التخلف والفساد والتفريط والخيانة والعمالة.
ومن سخرية الاقدار أن تقوم الدولة العبرية في ذات الوقت، بدعم أركان دولتها من لا شيء، واستنبات قيم سياسية تقدمية لا نظير لها في ثقافات شعوب المنطقة، واستلهام تعددية خلقت مجتمعا يحترم المؤسسة والفرد ويقوم على مبدأ التداول للسلطة، ولم تنسَ أن تعلن نفسها كقوة قاهرة لها طموحات توسعية، أجبرت دول العالم على الاعتراف بها، بناء على معطيات ثابتة تقوم على فكرة عدم التنازل. ورغم عدم التسليم بشرعيتها من الأساس، إلا أن الواقع يشير إلى أنها تعاملت بوضوح فج، فقتلت وسلبت واستبدت في وضح النهار، لكن أصحاب الفكر التآمري يصرون حتى هذه اللحظة، على أنهم ضحية مؤامراتها الليلية، وأنها تعمل بالتواطؤ مع الشعوب لإسقاطهم، لدرجة أصبح الحاكم ملاكا والشعب هو الشيطان!
ومن المفارقات أن هذه النظرية نفسها، صنعت أصناما عربية صمدت طويلا وعمّرت، ولم يغيبها الموت الرحيم، وقد استمدت ديمومتها من استعباد الشعوب وامتطائهم، فأصبحوا أكثر قهرا من الصهاينة، وأكثر تآمرا منهم، بل أصبحت شرعية وجودهم من بقاء هذا "الكيان" وقوته. والغريب أن يصدق بعضنا أكاذيبهم التي سحقت إنسانية الإنسان وكالت بمكيالين، فالأول يتشدق بالدفاع عن كرامة شعبه من العدو، والمكيال الآخر يدوس على أم رأسه أيضا.. لذات السبب.
والعجيب أن حكماء بني عرب لم يدركوا أن سقوط البيدق الأول سيكر السبحة تباعا، فسيذهب من يذهب وستبقى إسرائيل، إلا أن الرهان القادم سيركز على قوة بقاء النظرية حتى بعد سقوطهم. فالعقلية السياسية العربية بطبيعتها تعشق الغيبيات، وتفضل المبني للمجهول على ما هو معلوم، لذا كثيرا ما نسمع عن أحداث وفجائع ولا نعرف أسبابها، فتلصق على ظهر المؤامرة الصهيونية العالمية.. حتى في الملاعب أصبح الشغب نتيجة للمؤامرة! والخوف أن يستمر هذا الخطاب الممجوج في أدبيات الأنظمة الثورية الجديدة، فتنكفئ على ذاتها وتتهرب من التعامل والانفتاح على الآخرين، ليس لحقيقة وجود المؤامرة بقدر ما تحمله هذه العقليات من إرث زمني ليس بقصير، جعلها تدمن النظرية وتقدسها، فتظل تدور في فلكها، خاصة وأن منظّريها لا يزالون يزاولون مهنتهم القديمة في الترويج لها، بل هناك من يقتات من ورائها ويتكسب من خيراتها.
إن الرهان في العقد القادم على ظهور ديمقراطيات حقيقية في المنطقة، لا بد أن ينطلق من بناء وتدعيم أركان المجتمع ومؤسساته، والعمل على التخلص من الأمراض النفسية والخزعبلات التي طالما أحاطت بالمؤسسة السياسية، والتي لعبت دورا في تمجيد الصنم وإسقاط الفرد، والزج به في معارك وهمية أشبه ما تكون بمعارك طواحين الهواء. فأعداء الأمة واضحون، بل ومكشوفون، لذا لا يستقيم بأي حال التضييق على هذه الشعوب انطلاقا من نظريات بائدة. فلتكف أبواق السلطة التي شنفت الآذان، والتي كتبت تاريخا مأزوما، فقط من أجل عيون النظام، ولنعد القراءة في أسباب وجود أصحاب هذه النظرية وأهدافهم البعيدة والقريبة، والتي لا تزال تدعي أنها آخر الترسانات التي تقف في وجه العدو الصهيوني، بل تذهب بعيدا في شطحاتها حين ترى نفسها أقرب ما تكون لحزب الرب من حزب الشيطان..
والسؤال الأخير.. حتى متى نسوّق لهذه الفضائل الزائفة؟ وحتى متى تدوم؟