ثمة ثورة هادئة تجري في المناطق النائية من الصين. فقد انتشل النمو المتسارع مدعوماً بإصلاحات اقتصادية تقودها الحكومة الصينية، مئات الملايين من البشر من براثن الفقر، وحوّل مجتمعاً زراعياً فقيراً إلى قوة صناعية عالمية، في غضون جيل واحد. ومع ذلك، فإن ثاني أكبر اقتصاد في العالم الآن، يقف عند مفترق الطرق.

لقد جلب النجاح المذهل للصين، نتائج تمثلت في وجود فجوة كبيرة في الثروة والفساد المستشري، الذي يهدد استدامة التنمية والتماسك الاجتماعي. وقد أنتجت الجغرافيا الاقتصادية دولتين صينيتين، هما المناطق الساحلية المبنية على النمو القائم على التصدير، والتي تشبه على نحو متزايد الدول المتقدمة في العالم، والمناطق الداخلية الأكبر مساحة والتي تعاني من التخلف الشديد. فهل ستواصل الصين مسارها الحالي وتصبح حقاً قوة عالمية كبرى كما فعلت أميركا منذ أكثر من قرن؟ أم أنها سوف تعاني كما هي الحال بالنسبة للكثير من البلدان النامية الواعدة، من الفجوة الآخذة في الاتساع بين من يملكون ومن لا يملكون، في ظل شد الطبقة الأخيرة للأولى إلى مستوى أدنى؟

يمكن الحصول على الجواب في هذه المنطقة الجبلية الداخلية في عمق منطقة غرب الصين، والتي كانت حتى الآونة الأخيرة من أشد مناطق البلاد تخلفاً. ففي غضون نصف عقد من الزمن فحسب، أصبحت مدينة مقاطعة تشونبينغ، التي تعادل نصف مساحة بريطانيا، أكبر معمل لابتكار السياسات العامة في العالم اليوم. وهناك ثلاث مجموعات من تجارب السياسات واسعة النطاق، والمتشابكة من خلال فكرة ثورية تتمثل في النمو مع المساواة، تحول مسار هذه المنطقة، من خلال نتائج بعيدة المدى بالنسبة لمستقبل الصين، تمثلت في التحضر والعدالة الاجتماعية واقتصاد السوق، على أساس القيم الصينية بشكل لا لبس فيه.

التحضر يجري بسرعة وعلى نطاق لم يسبق لهما مثيل، حتى بالمقاييس الصينية. فهناك 12 مليون نسمة في تشونبينغ، من أصل 32 مليون نسمة، هم من أهل المدينة، أما الباقون فهم من الفلاحين والعمال المهاجرين. وعلى عكس المناطق الساحلية التي كان معظمها من المناطق الحضرية بالفعل في بداية الإصلاح الاقتصادي في الصين منذ 30 عاماً، فإن ديمغرافيا تشونبينغ هي صورة تعكس الصين ككل، وهذا يجعل التحضر مختلفاً نوعياً عما حدث في البلاد حتى الآن. وفي عام 2008، أطلق نظام تبادل الأراضي في المناطق الحضرية والريفية، وهو نظام مبتكر من شأنه أساساً أن يؤمّن المساكن الريفية، والسماح للمزارعين بتحويل بيوت المزارع إلى أراضٍ صالحة للزراعة، مقابل الحصول على مبالغ نقدية من المطوّرين الذين يشترون المتر المربع في شكل حصص إضافية، من أجل التنمية الحضرية العقارية.

ومنذ بداية العمل بنظام المبادلة، تمت صفقات تقدر قيمتها بـ1.5 مليار دولار، وانتقل أكثر من مليوني فلاح إلى المدينة، ومن المتوقع أن ينتقل مليون شخص غيرهم بحلول نهاية عام 2012. ويجري التخطيط لنقل عدد مذهل يقدر بسبعة ملايين فلاح، إلى المدينة بحلول عام 2020، ما سيصل بمعدل التحضر إلى 60%. والأمر الأكثر بروزاً، هو أن هذا التحول الديمغرافي لا يحدث من دون فقدان الأراضي الصالحة للزراعة.

وفي الوقت الذي يجري هذا التحول الاجتماعي، فقد كثفت الحكومة الصينية مساعيها لضمان رفاهية من هم عرضة لخطر التخلف عن الركب، بسبب تسارع التنمية الاقتصادية. ويتم حالياً بناء نحو 430 مليون قدم مربع من المساكن لذوي الدخل المنخفض، تهدف أساسا إلى ضمان إسكان ميسور لنسبة الثلث من أبناء الطبقة الدنيا من السكان. ويجري هذا في مجمله من خلال تمويل مصدره الحكومة، ودون الاعتماد على قوى السوق.

الإصلاح الأكثر تأثيراً، يتمثل في ريادة تشونبينغ في نظام يمنح سكان المدينة الجديدة تلقائياً وضعاً للإقامة الحضرية، وما يصحبه من التعليم ومنافع الرعاية الصحية، بعد خمس سنوات من الإقامة في المدينة. فمن خلال خطوة واحدة، يتم في النهاية ردم الفجوة الأكثر تصلبا وهيكلية، والتي تفصل بين جميع الصينيين في المدينة وسكان الريف، فيما يعرف بنظام "هوكو". ويجري التخلص من المشاهد المؤلمة للملايين من العمال المهاجرين الكادحين، في المدن الساحلية الغنية الواقعة في قلب الصين، والذين يفتقرون إلى الرعاية الصحية والتعليم لأبنائهم.

وفي إطار السعي لمكافحة الفساد، بدأت الحكومة الصينية بالجزء الأشد صلابة، وهو صناعة الأدوية في قطاع الصحة العامة. فلا يخفى على أحد استشراء طاعون الاستغلال والرسوم، الذي عصف بسلسلة القيمة في جميع أنحاء الصين. فقد تم إنشاء نظام محوسب لإمداد المستحضرات الصيدلانية، وبمشاركة إلزامية من قبل جميع المستشفيات العامة. فمن خلال شاشة واحدة، يتم عرض جميع مشتريات المستشفيات العامة من الأدوية، بأسماء الموردين وأسعار الوحدات على أساس يومي، ومتاح للجمهور في الوقت الحقيقي للشراء. وقد غطى برنامج "الشمس المشرقة لشراء الدواء"، حسبما أطلق عليه، تكاليف قدرت بـ5 مليارات دولار لشراء الأدوية في 18 شهراً منذ إطلاقه، ويساعد البرنامج على استعادة ثقة الجمهور في نظام الرعاية الصحية في تشونبينغ.

تشكل اقتصاديات السوق المفتوحة، الركيزة الثالثة للتنمية في تشونبينغ. ففي عام 2007، جاءت نسبة 25% فقط من الناتج المحلي الإجمالي لـ"تشونبينغ" من القطاع الخاص، فيما جاءت النسبة المتبقية من الحكومة والشركات المملوكة للدولة. واليوم، يتم الحصول على 60% من شركات خاصة. وقد حفز هذا النمو الملحوظ في جانب منه، تجربة جريئة في التمويل متناهي الصغر. ففي الوقت الذي تركز بنوك الدولة قروضها على الشركات المملوكة للدولة، فإن تكوين رأس المال اعتبر بمثابة عنق الزجاجة بالنسبة للتوسع في المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الخاصة، في جميع أنحاء الصين. وفى تشونبينغ، رغم ذلك، قدمت مئات من جهات التمويل غير المصرفية الخاصة المعتمدة والتي تخضع للرقابة الحكومية، قروضاً صغيرة تقدر بـ15 مليار دولار، لشركات خاصة صغيرة ومتوسطة الحجم، خلال عام 2011 وحده.

إن نتائج ما يجري في تشونبينغ تنطوي على أهمية كبيرة، فقد كانت المناطق الساحلية التي حفزت معدل النمو في الصين إلى حد كبير، بمثابة ثمار يسهل قطفها. فما يحتوي على جدوى هناك ليست له جدوى في المناطق الداخلية من الصين، حيث تعيش الغالبية العظمى من سكانها. وبوصفها بلداً قارياً، فإن الصين بدون إنجاز تنمية حقيقية في المناطق الداخلية منها، من المرجح أن تتعرض نهضتها للإجهاض.

بدأ "دينغ شياو بينغ" الإصلاحات الاقتصادية للصين قبل 32 عاماً، من خلال إنشاء أول "منطقة اقتصادية خاصة" في مدينة شينزن الجنوبية، وهي المحطة الأولى لنهضة الصين. وأعاد إطلاق الاصلاحات قبل نحو 20 عاماً من خلال "جولة جنوبية" قام بها، حيث كان بروز شنغهاي أفضل رمز معبر عنها، بوصفها المحطة الثانية.

لكن المصانع مترامية الأطراف فى شينزن والأبراج المتألقة في شانغهاي، حتى الآن لا تصنع أمة قوية. فهل يمكن لهذه الحاضرة الجبلية أن تكون المحطة الثالثة ومنصة الانطلاق الأخيرة لهيمنة قوة حضارية كبرى؟ تتجه جميع الأنظار إلى تشونبينغ.