الكتابة في السنة الجديدة تستدعي عادة الذكريات التي مضت، والتي تشعرك حتى اللحظة بأنك لاتزال تحلم، وأن ما حدث وسيحدث في الأيام القليلة، وخاصة في منطقتنا العربية، ربما هو أحد الأفلام الهوليوودية التي عودتنا على ما يعرف بـ"الخيال المفرط" وبالاستشراف الضمني للمستقبل، وبوضع سيناريوهات مرعبة عن نهاية العالم.
ولكن ما حدث حتى هذه اللحظة، قد حرك المشاعر واختبر كثيرا منها، وخاصة تلك المتعلقة بمفردات كـ"العروبة" و"الحس القومي" و"المصير المشترك" وغيرها، التي لم تلهم البعض للتفاعل مع الأحداث الماضية، لأنها شكلت في ما مضى مفردات للخيبة والفشل، ووصلت حدّ الكفر بكل ما يمت للعرب بصلة.
وقد يجد البعض عذرا لهؤلاء، لأننا جميعنا نعاني بشكل ما من إحباط مزمن، صدرته لنا تلك الحكومات المتواطئة ضد الإنسانية، وضد مشروع النجاح بكل ما يحمله من معنى، وكانت سببا في تخلف مشروعات التنمية في الوطن العربي.
وتعاقبها المتواصل أوجد ماكينة من الخذلان تتوارثها الأجيال، حتى أصبحت كلمة "عربي" مرادفة للسلبية والتراجع والفساد، لأن التخمة التي أصابت أولئك المستبدين الفاسدين، قد قضت على أحلام المواطن البسيط في أن تكون له حياة كريمة، دون أن يجد نفسه محاطا بآلاف السلاسل التي تقيد حريته وتكبل طموحاته وتجرح كرامته.
لذا حين نتخيل هذا العالم وفجأة من دونهم، قد لا نصدق أننا أمام فيلم من الواقع تبثه الفضائيات لحظة بلحظة. ويبقى أصعب المشاعر على النفس البشرية، هو أن تتقبل فكرة الانتزاع، وهذا ما رأيناه خلال الثورات العربية، التي انتزعت من أولئك الحكام كراسيهم نزعا قاسيا، وعزيزا، وجعلهم الله أذلة أحاطت بهم خيباتهم التي طالما صدروها لشعوبهم، ومن الضروري بعد ذلك أن لا يمر هذا العام دون أن نتأمل الحكمة الإلهية من نهاية شبه مروعة، لكل من تسول له نفسه ظلم الشعوب وإذلالها.
ولعل ما لا يمكن أن تنساه الذاكرة، هو تلك الخطب الرنانة التي قد يشهد التاريخ كتبا تحلل وتفسر مضامينها النفسية والسلوكية، ومدى تأثيراتها العكسية على المستمع العربي، والتي لعبت دورا كبيرا في تهييج الرأي العام ضدهم، وأسقطت ورقة التوت عن عوراتهم وتعنتهم، وأراقت ما تبقى من ماء وجوههم، وكلما ظهر الحاكم ليخطب في الناس مدغدغا مشاعرهم، كلما كانت كلماته وبالا عليه، والمنجنيق الذي أحرق قلعته.
والغريب أن جميع الرؤساء المنبوذين قد ركنوا لمخاطبة الثوار مباشرة، مع اختلاف فحوى الخطب، ولعبوا على الوتر الحساس وحاولوا أن يستدروا تعاطف الناس معهم، من خلال استعراض طويل لمسيرتهم في الحكم وخدماتهم الجليلة التي قدموها، ولم ينسوا أن يقدموا وعودا مضللة حتى يتم تخدير الثورة. والمفارقة أنهم كلما خرجوا بخطبة جديدة، توقعت الشعوب أن الرئيس قد استوعب الدرس في ساحة الثوار وأنه سيخرج ليتنحى، ولكنهم حتى اللحظة الأخيرة خيبوا الآمال.
ومن المثير أن نرى الحذاء العربي يصفق وجوه صور أولئك الظلمة المستبدين، لندرك أن الوجع كان أكبر من احتمال الصمت، مع رحيلهم المخزي وكأنه خاتمة الحديث.
ومع بداية عام جديد، يبدو أن المشروع الثوري في المنطقة العربية مستمر، خاصة وأن الشتاء أصبح طويلا في مصر، بل وقارسا، والتجاذبات التي تحدث اليوم في مصر قد تجعلها أمام منحدر ديمقراطي حاد، قد يجهض فكر الثورة وأهدافها، لأن عدم اعتراف النخب السياسية بنتائج صناديق الاقتراع، سيذكرنا بما حدث في الجزائر في التسعينات وما أعقبه من عمليات عنف مضادة.
ومن ناحية أخرى، فإذا كانت السماء العربية لاتزال ملبدة بالغيوم، فإن من المنتظر أن تتفتق في أكثر من أرض يباس، فالمعطيات الإقليمية للمنطقة تؤكد أن السودان ليس بعيدا عن هذه الأحداث، خاصة بعد انسلاخ جنوبه العزيز وتقلص ثرواته، أما سوريا فإن الثورة فيها متصاعدة، وتعطي مؤشرا قويا على مزيد من التصعيد، على الرغم مما تقدمه الجامعة العربية من إسعافات أولية غير مجدية.
وفي اليمن فإن الوضع المتأزم لثورتهم قد يشي بتأجج ما ستحمله الأيام القادمة، فالنزعة السلمية لثورة أهل اليمن استطاعت أن تؤكد أن الرغبة في إحداث فارق في الحياة السياسية، أكبر في مجتمع يعج بالأسلحة والمسلحين، ويتميز بالعقلية الثأرية، ولكنهم أثبتوا أن التحضر الإنساني ليس شكلا وإنما هو قناعة وإيمان.
لذا نتمنى أن يحمل هذا العام بشارة الخروج من عنق الزجاجة الذي لايزال يحاصرهم ويبدد تطلعهم لنهضة عمرانية وتنمية شاملة، تليق باسم اليمن السعيد وبخيراته وجمال أرضه، ويعترف بمثقفيه وعلمائه ومفكريه الذين رفدوا الحياة الفكرية العربية بكثير من مؤلفاتهم وإنتاجاتهم، وازدانوا نجوما في الإسهامات النوعية التاريخية على مر العصور.
أما المحيط الخليجي العــربي، فــإن بداية السنة الجــديدة المحمومــة بمنــاورات عسكريــة إيرانية وتهديدات بإقفال مضيق هرمز، تبدو من الجدية بحيث لا يمكن التغاضي عنها أو التخفيف من حدتها، ولابد أن تعيد دول مجلس التعاون النظر في علاقتها بهذه الجارة، وأن تكــون حــذرة ويقظة لكل التطورات والاحتمالات.. الكثير يحمله القادم من الأيام، وإن غداً لناظره قريب.