تتواصل عمليات التسويق والترويج، لأهمية آراء الاستشاريين الخارجيين للمؤسسات والشركات والمنشآت، سواء الحكومية أو الخاصة في الإمارات، وكذلك الدعوة إلى تبني توصياتهم والأخذ بمقترحاتهم. كيف لا وهم الاستشاريون العالميون الذين يقدمون الوصفات السحرية لمن يطلبها.

ويحللون ويكتبون تقارير وتصورات تتلون وتتبدل حسب مآربهم ومقاصدهم، ومع الأسف يتلقاها المتلقي دون التفريق بين زئير الأسود ونعيق الغربان، على اعتبار أن مساعدة المستفيدين على اختيار الفرص الأكثر جدوى، وتقديم خارطة طريق لخططهم المستقبلية، هي من أهم المسؤوليات الملقاة على عاتق هؤلاء الاستشاريين!

لقد أصبح معظم الاستشاريين منظرين يهرفون بما لايعرفون، ويحللون في كافة الشؤون الاقتصادية، متجاهلين عدم الاختصاص في الموضوع ونقص المعلومات في التحليل، فهم ذاتهم من يتحدثون في الصباح عن السياحة، نجدهم يتحدثون في المساء عن الصناعة، وفي اليوم التالي عن التعليم، وفي اليوم الذي يليه عن البنية التحتية، وفي اليوم التالي عن الطاقة المتجددة، وبعدها عن التوطين، ومن ثم عن صناعة الطيران، وبعدها عن تحلية المياه، ثم عن صناعة النفط.. وهكذا.

ورغم بديهية الحاجة إلى المعايير المهنية في كل مهنة، إلا أننا نجد أن مهنة الاستشاريين الخارجيين لا تحكمها معايير مهنية مؤطرة وواضحة، مما يترك آثارا سلبية على قرارات المؤسسات والشركات والمنشآت.

في السابق كنا نعتمد اعتمادا كليا في الإمارات على المكاتب الاستشارية الأجنبية، وتحديدا مع بداية الطفرة الاقتصادية، فمنها من ساعدنا على التطور ومنها من أسهم في عرقلة تقدمنا، نتيجة معلومة مكذوبة أو توصية ملغومة أو نصيحة خادعة.

وكثير من الاستشاريين قدموا ممارسات خاطئة، أضرت وما زالت بعدد من المؤسسات والشركات والجهات، وباتوا يلجأون إليها لوضع تصور غير حقيقي ومبالغ فيه لجدوى مشاريع غير مجدية، تم توثيقها على أنها ناجحة، للحصول على تراخيص للمشاريع الحكومية التي تشترط الحصول على دراسة جدوى للموافقة على الترخيص، أو بسبب الحصول على قروض وتمويل.

والإمارات اليوم بقيادة صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، نجحت في تحقيق إنجازات مهمة في زمن قياسي، لتتحول الدولة إلى مركز حيوي ومصدر إلهام للعديد من الدول والمناطق المجاورة، في شتى المجالات والحقول الاقتصادية والاجتماعية والتنموية.

وأصبحت المؤسسات والشركات الوطنية الإماراتية مهيأة وكفؤة ومتمكنة من نطاق عملها وإطار تخصصها، بل وأضحت صاحبة تجربة وخبرة مبنية على أسس وقواعد علمية ومهنية، وتبنت تقنيات وأدوات جديدة، مكنتها من التغلب على حالة الركود التي سادت بعض القطاعات الاقتصادية.

وتكيفت مع المتغيرات التي شهدها الاقتصاد العالمي بسرعة فائقة، وذلك من خلال تبنيها استراتيجيات جديدة، قائمة على الخطوات المدروسة والذكية، صنعت من خلالها التغيير المنشود بالاعتماد على ذاتها، بعيدا عن الخبرات العظيمة للاستشاريين العالميين.

وما يتوجب علينا فعله الآن، هو أن نعيد النظر في موضوع الاعتماد على الاستشاريين الخارجيين، بعد أن وصلت ـ كما أسلفنا ـ مؤسساتنا وشركاتنا الوطنية الإماراتية إلى مستوى راقٍ ومتقدم كل حسب اختصاصها، وأن نلجأ إلى استشارات محلية داخلية، مبنية على المنطق في التحليل والقدرة على التنبؤ، عملا بمبدأ "ما خاب من استشار"، من خلال تشكيل فريق استشاري محلي، كفؤ وقادر على إعطاء رأي يحسم الجدل حول أي قرار أو خطوة تتخذها الشركة.

ولا بد أن يتكون هذا الفريق من مهنيين ومتخصصين في عدة مجالات، مالية وإدارية وهندسية ورقابية وغيرها، من داخل المؤسسة، مع الاستعانة ببعض الخبرات الخارجية وأصحاب التجارب الحقيقية، الذين مارسوا هذه الأعمال والمشهود لهم بالكفاءة.

وليس من خلال تلوين الصفحات، لتتمكن المؤسسات والشركات من إعادة هيكلتها وتنمية وتطوير قدراتها، بسواعد كوادرها المحلية، وعدم ترك الحبل على الغارب لعبثية الاستشاريين الخارجيين، البعيدين كل البعد عن الأمانة والموضوعية والحيادية والصدق والنزاهة وتحري الدقة والسرية.

ومع أن الأزمة العالمية كشفت كل معيب، وبينت عورات مئات الشركات والمؤسسات التي كان المرء يظن أنها شركات محترفة، إلا أن أبرز ما كشفته الأزمة هو سوء الشركات الاستشارية، التي تقدم خدماتها كفاتورة الهاتف، بحساب يتضمن العمل بالدقيقة والثانية. فالأدوات المالية المسمومة والصناديق المنهارة، التي استثمر فيها المستثمرون الدوليون قبيل انفجار الفقاعة، كانت قد حصلت على صكوك وضمانات من الاستشاريين الخارجيين، تشبه صكوك الغفران التي كانت توزع على الأوروبيين في العصور الوسطى.