انتهت التجربة الثانية لانتخابات المجلس الوطني الاتحادي، وتمت على الوجه الذي كان يطمح له كثير من الناس، من حيث التنظيم الرفيع والجهد الجبار الذي بذلته اللجنة الوطنية للانتخابات، والذي لاقى الاستحسان من قبل جميع مواطني الدولة، وأشعرهم أن التحديات في إحداث فارق نوعي في إنجاح أي فعالية، لا يحتاج إلى تراكم الخبرات والتجارب، وإنما يستنهض الواقع على أسس من الإلهام الصحيح لمعطيات النجاح الرائدة في المجتمعات المتقدمة.

من ناحية أخرى، نجد أن الفورة التي أحدثتها الانتخابات، قد حركت لدى البعض حماسه في التلاحم مع تطلعات القيادة الرشيدة في ضرورة مواكبة الحدث، وتثمين أهميته لتقديم الصورة الإيجابية لهذا التمكين الغالي، الذي بادرت له الحكومة الاتحادية، وتوازى مع عمق إنجازاتها الوحدوية وتجربتها الفريدة، التي تحققت خلال أربعين عاما فقط هي عمر الاتحاد.

لذا، من يريد أن يقيّم هذا الحدث الانتخابي، لا بد في البداية أن يضعه في إطاره الصحيح، ويقيس فشله من نجاحه بناء على عامل الزمن، كأهم مؤشر يمكن أن يترجم مدى وعي الحراك السياسي للطرفين (المرشح والناخب)، الذي حدث في الأيام القليلة الماضية، ويؤرشف لهذه الفترة انطلاقا من حداثة التأسيس لهذه التجربة في مجتمع الإمارات، إضافة إلى الأخذ في الاعتبار عامل التدرج في ترسيخ مفهوم وثقافة الانتخاب، الذي يحتاج إلى نضج وارتقاء بالوعي تجاه عملية المشاركة السياسية وضرورتها، بل واستثمارها بحيث تتاح للجميع فرص متساوية لتحقيق التمثيل المناسب لشرائح الشعب، وتدعم في الوقت نفسه المناخ الصحي لفكرة الانتخابات، بعيدا عن نزعة المجاملات، أوالنعرات القبلية أو حتى المصالح الشخصية. لذلك حين تأتي النتائج النهائية مخيبة للبعض، لا بد أن يعي المرشحون أن هناك أسبابا تقف خلف هذا الشعور، ربما تلهمهم دروسا لتلافيها مستقبلا، والعمل على منح أنفسهم فرصة للمراجعة والتحضير الجيد.

وعلى النقيض فقد أتت النتائج للبعض الآخر مبشرة، واستطاعت أن تعكس روح الحدث بنجاح بعض الأسماء التي راهن عليها البعض واستطاعت أن تحشد الأصوات المطلوبة، بل واكتسحت بفارق كبير، إلا أن الشعور السائد من بعد إسدال الستار على هذا العرس الانتخابي، تجلى في أسمى صوره بحالة الفخر التي خامرت كل من شارك، ناخبا أم مرشحا أو حتى شاهدا، في المساهمة في تحريك عجلة الحدث حتى نهاية مطافه. ولم يخرج أحد خاسرا، بل نجح الجميع وتفوق في احتفالية انتخابات المجلس الوطني الجزئية.

لذا من المهم بمكان أن نبدأ سريعا وقبل أن يجتاح النسيان ظروف هذه المناسبة الوطنية، في إعادة قراءة الوقائع ومن زوايا مختلفة، خاصة وأن هناك أكثر من رأي ونظرة قد سمعناها وعايشناها وتبنينا بعضها، وكلها تصب في مصلحة الوطن أولا وأخيرا، ولتجويد العمل الانتخابي كعملية لا ترتبط بشخوص المرشحين بقدر ما ترتبط بنسيج المجتمع بشكل عام.

إن النظرة المتفائلة التي دفعت بالحكومة لزيادة أعداد القوائم الانتخابية، كانت تهدف إلى إحداث تنويع في معطيات العنصر البشري، بناء على المستوى التعليمي و المهني أو الفئة العمرية، وهذا ما لمسناه واقعيا. لكن هناك ما لم يدركه البعض من الذين غالوا في تقديم أنفسهم كمرشحين للمجلس، دون أن يتعرفوا إلى طاقاتهم الحقيقية أو مسؤوليتهم تجاه المجلس، لذا أتت الشعارات فضفاضة وغير منطقية، لأنها لم تعبر عن فهم واقعي لصلاحية أعضاء المجلس، ناهيك عن أن فتح باب الترشيح على مصراعيه أمام كل من هب ودب، ساهم في إحداث بلبلة وتشتت لدى الناخب الذي لا يعرف كيف يمكن أن يختار مرشحه بين قائمة تطول، وقد تصل إلى عشرات المرشحين، بل بعض الإمارات وصلت نسبة الترشح فيها إلى أكثر من ثمانين مرشحا، وهي نسبة تدل على أن هناك ارتجالا في عملية الترشح وفهما غير واضح لدى بعضهم، لذا يبدو مفهوما حين يخفق بعضهم في النجاح وهو الجدير بالثقة والوصول للمجلس.

إن ضياع الأصوات كان إحدى أهم النتائج السلبية لكثرة أعداد المرشحين، الذين يراهنون على عشرات الأصوات من المقربين منهم أو من أصدقائهم، واستطاع هؤلاء من حيث لا يدركون، تركيز نجاح بعض الناس وحصره في قبائل بعينها، لذا شعر البعض أن هناك خللا ما قد حدث أثناء سير العملية الانتخابية، في حين أن الخلل هو هذا التفلطح لعملية المشاركة في الترشح.

أما من ناحية الإقبال على الانتخاب، فقد وجدنا أن النسبة الأخيرة جاءت دون مستوى الطموح، حيث بلغ عدد الناخبين ما يقارب الـ36 ألف ناخب، في حين أن القوائم الانتخابية ضمت ما يقارب 130 ألف ناخب. وفي هذا الصدد لابد من وقفة لمراجعة الأسباب التي تقف وراء الإحجام عن المشاركة، أو تفعيل المشاركة بحيث تصل إلى نسبة مشرفة ومطلوبة تعكس الحراك المطلوب، خاصة وأن العامل الزمني الذي يفصل بين كل تجربة وأخرى، قد يعيد مشاهد الاسترخاء من جديد، إذا أخذنا بعين الاعتبار الطموح الذي يغلف مشوار المجلس والانتقال به إلى التمكين الكامل، سواء من خلال الانتخاب الكامل للأعضاء أو منحه صلاحيات تشريعية ورقابية أوسع.

نبارك لكل من وصل للمجلس، ونأمل فيهم أن يكونوا عند حسن ظن الناخب، ويقدموا صورة مشرفة للناخب في ضوء الصلاحيات المتاحة.. ونقول للمرأة من جديد؛ حظا موفقا، لأن الأجندات التي خرجت بها المرشحة لم تحقق لها الخصوصية المطلوبة، ونتطلع إلى عبورها عبر بوابة التمكين، لتحقيق التوازن المطلوب لكافة أطياف المجتمع.