تنطلق غدا حملة الأربعاء لإغاثة القرن الإفريقي، بتوجيهات كريمة من رئيس الدولة تحت شعار "سقياهم"، وكما عودتنا هيئة الهلال الأحمر على التواجد في كثير من الأحداث الإنسانية التي عبرت القارات وأغاثت الملهوفين والمنكوبين وضحايا الكوارث الطبيعية والسياسية، فإن الحملة الجديدة لن تكون الأخيرة، ولن يكتفي القرن الإفريقي من حملات قادمة كلها تسهم في إحداث فارق ولو كان يسيرا، في رفع معاناة ملايين الناس المشردين والمحاطين بمشاكل الفقر والفاقة والمرض والعطش.
ولعل المشكلة الأساسية في هذا الجزء من العالم، أنه يرزح تحت وطأة الحروب والتفكك وقراصنة من نوع جديد، اخترقوا البر والبحر وأعادوا مشاهد من تاريخ البشرية الغابر والدامي في السرقة والنهب والقتل.
وإذا أعدنا تركيب أجزاء الصورة الممزقة للصومال، سنفاجأ بأنه من أغنى المناطق الزراعية التي وهبها الله أنهارا وساحلا طويلا وموقعا جغرافيا مميزا، ولكن ماذا تفعل هذه المقومات أمام نزعات عشائرية وثارات قبلية وإرث استعماري، كلها قسمته إلى ثلاثة أقاليم بين بريطاني وإيطالي وفرنسي، ووضعته في قلب حروب طويلة، أهلية داخلية أو مع الجيران، لعل أبرزها حربه ضد إثيوبيا 1977-1978، والقتال بين الحكومة والحركة الوطنية الصومالية في شمال غرب البلاد، والنزاع بين الحكومة وقوات التحرير العشائرية 1989-1990.
لكن في هذه الفترة الزمنية حدث الكثير من التطورات السياسية، وخاصة خلال فترة حكم الرئيس سياد بري الذي صعد إلى سدة الحكم عام 1969 إثر انقلاب عسكري، وتبنى سياسة شيوعية ماركسية وحكم البلاد بالعنف والحديد والنار، فكانت النتيجة الحتمية قيام حركات تمرد في شمال البلاد وجنوبها لإسقاط النظام العسكري للجنرال بري، وفشلت جميع الجهود لإقامة حكومة دستورية في البلاد، حيث أعلن الإقليم الشمالي انفصاله تحت مسمى "جمهورية صومالي لاند" الآمن نسبيا حتى يومنا هذا، بينما دخلت بقية الأقاليم والمحافظات في حرب أهلية مريرة.
ولعل لعنة التشرذم في هذا الجزء من القرن الإفريقي قد لازمته، ولم تقم أية قائمة لأي نظام سياسي بعد سقوط نظام بري، واستمر حال العشائر شمالا وجنوبا في مواصلة إعلان الاستقلال لكيانات ذاتية الحكم في الصومال، لكن لا يمكن أن نقول إنها وصلت لدرجة الاستقلال.
وفي ظل هذه الظروف ومع الفشل الذريع التي منيت به قوات حفظ السلام الدولية، تعيش هذه البقعة من العالم وضعا منكوبا ومزريا، يدفع ثمنه الأبرياء من السكان الذين لم يتعرفوا على معنى الحياة الآمنة الكريمة، بل انخرط جزء كبير منهم في عمليات القرصنة، انطلاقا من هدف يرونه نبيلا وهو حماية سواحل الصومال من سفن الصيد غير المشروعة، ليتطور الأمر إلى تنظيم عصابات بحرية لخطف السفن وإعاقتها عن المرور من مضيق باب المندب.
خاصة تلك المحملة بمواد الطاقة والتي يكثر وجودها في هذا الجزء من العالم. وهدف هؤلاء القراصنة لا يكمن في البضائع التي تحملها السفن، بقدر ما تدور الرهانات على مبالغ الفدية لمن يكون على هذه السفن، والتي تصل إلى مبالغ خيالية.
ولكن، هل لهذا الوضع جانب مشرق؟ لعل ما لا يعرفه الكثيرون عن هذا الجزء من العالم، هو أن حكومة الصومال الحالية المنتخبة بزعامة شريف شيخ أحمد، تعمل على منح التجربة الجديدة فرصة لإعادة توحيد الصومال.
كما قامت الحكومة الانتقالية بتوسيع عضوية البرلمان وضمت المعارضة إليه، وتبقى العقبة في طريق استقرار البلاد، هي صعود حركة الشباب المجاهدين التي باتت تؤرق استقرار الصومال في عهد الرئيس شيخ أحمد، والتي تعد أقوى فصيل صومالي مسلح منذ القضاء على المحاكم الإسلامية، ويقدر عدد عناصر الحركة بنحو 3000 إلى 7000 مقاتل.
ويعتقد أنهم يتلقون تدريبهم في أريتريا. وتلعب هذه الحركة دورا كبيرا في إفشال جهود السلام والجهود الإنسانية من أجل إغاثة ضحايا الجفاف والمجاعة، إلا أن الرئيس الصومالي يتطلع إلى اقتلاع جذورهم من أرض الصومال وإعادة الاستقرار، من خلال مساعي المفاوضات بين الطرفين.
لذا تأتي هذه المجاعة في ظل ظروف داخلية يتحكم فيها أمراء الحركة التي لا تخلق بيئة آمنة لوصول مواد الإغاثة لمن يستحقها، وظروف بحرية تعيق السفن الإنسانية التي تتجه اليوم لإخوانهم المنكوبين، والذين لا يشعرون من الأساس بمعاناتهم أو يأبهون بها.
التطلع إلى رفع المعاناة عن الصوماليين هو حلم في عودة هذا البلد الإفريقي العربي المسلم إلى حظيرته العربية وتفعيل مكانته، وضمان أمن واستقرار شعبه، وإذا كان من حل ممكن لإنهاء هذه المعاناة، فلا بد أن يأتي من الداخل، وباتفاق عشائري يرضي جميع الأطراف.
ولكن الاتفاق في ظل الظروف الحالية يكاد يكون مؤجلا وصعبا، فالتفكير ينحصر في البحث عن لقمة عيش تسد جوع الأبرياء من الأطفال والنساء، الذين يسقطون ضحايا المجاعة، ويجبر كثير من الأمهات على التضحية بأحد أبنائهن كي يعيش الباقون، مما لا يترك مجالا لأي ترف سياسي أو حتى طموح مستقبلي.
الحملة تنطلق غدا في دولتنا الحبيبة، والعيون تتطلع إلى تفاعل إيجابي يرفع ولو جزءا من هذه المأساة في شهر الخير، فليكن شعارنا جميعا "سقياهم".