حتى هذه اللحظة لا نعرف كيف يتم تصنيف الإعلانات التجارية التي تعرض على شاشات الفضائيات، وكيف نحدد موقفنا كمشاهدين أولا وكمستهلكين ثانيا، من مضمون الإعلان الذي يحاصرنا بشكل شبه يومي ويلاحقنا على مدار الوقت، كي نستوعب تأثير هذا المنتج على حياتنا ونقتنع بأهميته، ونصل لمرحلة لا يمكن تصور الحياة بدونه.
ومن المفيد أن نتعرف ونحن نطالع هذا الكم من الإعلانات التي تخترق تفاصيلنا اليومية، على أسلوب عمل الماكينة الضخمة التي تعرف بوكالات الدعاية والإعلان في العالم، ومن ثم الشركات العابرة للقارات التي تتبنى هذا المنتج أو ذاك، ونحاول أن نفهم كيف تطورت الثقافة الإعلانية وفنون الدعاية في العالم، وكيف أصبح الإعلان حقلا علميا يدرس في الكليات، وفنا من الفنون التي تعتمد على الدهشة ووميضها في عيون المتلقي، بكثافة محددة وبتأثير ساحر، بحيث تحفز شهيته أو رغبته أو تشعره كأنه يقف أمام المنتج الذي طال انتظاره.
ومع اختلاف وتنوع سوق الإعلان التجاري من بلد لآخر، نجد أن هذا الفن أصبح يقترب من طريقة حياة البشر، واستطاع أن ينفذ إلى تطلعاتهم ويعكسها في ثوانٍ محددة ليقترب من وجدانهم ويحقق المصداقية المطلوبة، بل إن بعض هذه الإعلانات اعتمد على أساليب فكاهية وهزلية، بحيث كلما رأيت المنتج شعرت بالبهجة.
ومع هذا لا ننسى أن الهدف من الإعلان هو زيادة أرباح المعلن، عبر الترويج لسلعة قد لا تحمل من الجودة ما يستحق كل هذا، إلا أن العين تأكل قبل الفم أحيانا، وهذا بالتحديد ما يشتغل عليه المعلن، وهو ما يسمى بالإبهار والإقناع. لذا كلما سافرت إلى أية دولة سارعت إلى التوقف أمام إعلاناتهم التي تبثها قنواتهم الفضائية، ولا أخفيكم أني أجد بعضها يتمتع بأفكار مبهرة، والأجمل أنها موجهة بأسلوب يحمل خصوصية خاصة بهذا البلد أو ذاك، وربما وجدت نفسك مقتنعا أكثر بهذه السلعة لو عرضت في بلدك الأصلي.
إن الأسئلة التي تظل تتردد في ذهنك وأنت تشاهد بعض الإعلانات، يدور بعضها حول صلاحية الفكرة المطروحة والتي يصل بعضها إلى حد الإبهام، وثانيا من الشريحة المستهدفة من الإعلان؟ وأخيرا النقطة الأهم، وهي المعايير الأخلاقية التي تحكم هذا الإعلان؟
ولعل هذا هو المربط الأساسي من قيمة الإعلان ونجاحه في سوق الإعلانات. وإذا تابعت منذ فترة الكثير من الإعلانات القهرية التي تتخلل جميع البرامج، ستصل إلى قناعة مفادها أن أكثر من خمسين في المائة من هذه الإعلانات لا تنطبق عليها معاييرنا الأخلاقية التي تربينا عليها، بل بعضها يحمل من الإيحاءات الفاضحة ما قد لا يحمله بعض المسلسلات الأجنبية نفسها، ولنا في إعلانات مزيلات العرق مثال واضح، حيث تظل تقض مضاجع الأمهات والآباء ليل نهار، دون أن يجدوا حلا أمام هذه الإعلانات الخادشة لحياء أطفالهم.
أما البعض الآخر فهو يروج لقيم سلبية واضحة، فعلى سبيل المثال؛ الزوج الذي لا يريد أن يستمع لزوجته فلا بد أن يتجاهلها بشراب منعش لذيذ، والشاب الذي يريد أن يهرب من واقعه ويقترب من السذاجة، لابد أن يتناول مشروبا منعشا آخر.. وكلها ترتبط بترويج فكرة واحدة، وهي الانسحاب من الواقع وتسفيهه.
أما في ما يخص الشريحة المستهدفة، فحتى هذه اللحظة لا يمكن تفسير تلك الإعلانات التي تظهر الشاب الخليجي المراهق، وهو يرتدي ملابس من حي هارلم، بسلاسل وخواتم وقبعات غريبة الشكل، ويروج لفعالية تقام في إحدى الدول الخليجية، وكأن استحضار روح حي هارلم في أميركا هو الذي سينجح الفعالية، من خلال استنساخ فئة مهمشة تعاني من الإهمال وتتفشى بينها الجريمة!
أما إعلانات المرأة فحدث ولا حرج، لدرجة لم يعد هناك ما يعرف بالحياء أو الخفر الذي غلّف حياء المرأة المسلمة والعربية، فقد استبيحت خصوصيتها عبر وكالات الدعاية التي لا تعرف الكثير عن هذه المفاهيم والقيم الأخلاقية الجميلة، وإذ يعاب على المرأة أنها أصبحت سلعة بحد ذاتها وبامتياز وأداة من أدوات الإعلان، فإن هذا التوظيف استغل كل نقاط ضعفها وقوتها في أفكار إعلانية يصل بعضها إلى هدم أخلاق المرأة نفسها، دون أن نتحرك في اتجاه رفع الظلم الذي أصاب حواء، بل مضينا قدما في تبني هذه الأفكار وتطبيقها.
وإذا اقتربنا من أسلوب عمل هذه الوكالات، سنجد أنها أخطبوط حقيقي، فبعضها يسيطر على أكثر من ثلث الإعلانات العالمية التي تبث هنا وهناك، وأصبحت تستحوذ على هذا السوق المربح دون أن تكون لديها خطوط حمراء، بل يمكن القول إن سقف الإعلان أعلى بكثير من سقف الحريات الصحافية، وهذا ما نلمسه دون مبالغة.
فأين الرقابة لمضمون الإعلان؟ وأين حماية المستهلك من بعض المنتجات التي لعبت دورا في الإضرار بصحة الناس على حساب زيادة الأرباح؟ وهل هناك تواطؤ في اللعبة الإعلانية تشارك فيه الفضائيات التي لا يهمها سوى أموال المعلن؟ فالمقياس الذي يقاس به نجاح أو فشل هذه الفضائية من غيرها هو نسبة الإعلانات المعروضة على شاشاتها، ولكن ألا يأتي هذا على حسابنا كمستهلكين في النهاية؟ وهل سنظل نستمرئ هذه الإعلانات دون أن يكون هناك بروتوكول أخلاقي واحد يدين بعض ما يقدم لنا على شكل وجبات متخمة دون فائدة؟
وإذا كان الإعلان شرا لا بد منه، فكيف يتم ترويض هذا المارد الوافد بقيمه وأفكاره، بحيث يحترم الصغير قبل الكبير، ويحافظ على خصوصية الواقع بكثير من المدارة؟ فالإعلان الذي يهدم، يمكن أن يبني أيضا.