في الثالث عشر من شهر نوفمبر، وتحديداً الساعة السابعة صباحاً، هبطت طائرة بحجم آمالي وآلامي وترقبي. كنت أركبها مسافرة إلى الولايات المتحدة الأميركية، إلى مدينة «لوس أنجلوس» تحديداً. لم أذهب إلى هناك للتنزه أو قضاء وقت جميل، بل عبرت تلك المسافات والبحار طمعاً في إشباع نظري وكافة حواسي برؤية أبي الذي تفاجأنا جميعاً بمرضه، والذي تألمنا كثيراً لوجعه، هو الذي بدأ مسيرة المرض والألم في التاسع عشر من رمضان الماضي.

في هذا اليوم تحديداً بدأت مراسم مسيرته الحزينة مع المرض، وفي هذا التاريخ بالضبط دلف والدي نفقاً لم يعرف أين يبزغ النور منه، وانطلقت رحلة الصراع غير المتكافئ مع ذلك المرض الخبيث الذي اسمه السرطان.

 لم يكن هناك شيء يوحي لنا أو ينبئنا بهذا الخطر، لا إشارات ولو بسيطة ترسم ملامح طريق يؤدي إلى ذلك الداء العضال، إلا أن والدي قد شعر لوهلة بشيء ليس على ما يرام، ولكنه تجاهله، فهو الرياضي الذي عشق الرياضة بأنواعها منذ نعومة أظفاره. ولكن رغم حبه وممارسته العلمية والعملية للرياضة، إلا أن القدر كان يحمل له مرضاً لم يكن في الحسبان، فكيف يستطيع رياضي أن يتقبل فكرة توقفه عن ممارسة الرياضة وأداء عمله بالجودة التي كان يقدمها سابقاً؟ خصوصاً حين يكون هذا المرض بشراسة ما يسمى «المايتبل مايلوما»، أو الورم النقوي المتعدد كما يسميه العرب، وهو مرض سرطاني يصيب الخلايا البلازمية من نوع B، مما يؤدي إلى تكاثر هذه الخلايا بشكل غير طبيعي وتكدسها في نخاع العظم.

في التاسع عشر من شهر رمضان الماضي بدأ والدي يشعر بالألم والإعياء الشديد، لكنه قرر أن يداوي نفسه في بداية الأمر بكثير من الأدوية المسكنة، وصفها رحمه الله لنفسه أملاً في تهدئة الآلام والشكوك التي بدأت تقفز على السطح، إلا أنها لم تكن لوجعه برداً وسلاماً، فقرر وبعد إلحاح منا الذهاب للمستشفى لعل الله يكشف ضره هناك.

فدخل في ليلة مظلمة إلى الطوارئ ثم انتقل إلى العناية المركزة، وحينها انطلقت رحلة العذاب له ولأسرته، فأكد الأطباء تشخيصه بالمرض نظرا لأعراض عدة يختص بها مرضى «المايلوما»، أبرزها: ارتفاع الكالسيوم في الدم، وهشاشة في العظام، واختلال وظيفة الكلى. حينها كان الخبر مزلزلًا، فلم نعرف ما هي تلك المايلوما؟ ولماذا اختارت أبي من بين الناس؟ ومع كل هذه الأسئلة الحائرة الخائفة الخانقة، كان أبي ـ رحمه الله ـ الأكثر هدوءاً وإيماناً وتسليماً بقضاء الله وقدره، رغم أن إصابته به تعني أن هناك كائناً سيعيش معه حياته لحظة بلحظة، ينام ويفيق معه يضحك ويبكي معه، لا يعنيه إن كنت تكره وجوده وتتمنى الخلاص منه، وهو لا يهمه إن كنت أباً أو كنت بلا أبناء، إن كنت ناجحاً أو فاشلاً، إن كنت مؤمناً أو ساخطاً، إن كنت رياضياً أو كنت كسولاً، إنه قدر وأنت مجبر على استقباله بكثير من الصبر والحكمة.

قرر والدي رحمه الله أن يشد رحاله إلى الولايات المتحدة الأميركية، لعله يجد عافيته هناك في مستشفى قابع في إحدى ضواحي كاليفورنيا الهادئة اسمها «مدينة الأمل»، وبدأ العلاج فيها بكثير من الصبر والعزيمة والقوة، حتى أذهل الأطباء بقوة إرادته ورغبته العميقة الجادة في الشفاء.

وأشهد أني طيلة فترة تواجدي معه، لم أسمعه يشتكي من ألم أو حزن أو ضيق، على الرغم من أنه يعاني منها جميعا، إلا أنه كان رجلًا عظيماً صابراً حتى في أكثر درجات الألم وأشد لحظات الوجع، شديد التحمل شامخاً راسياً حتى في ألمه وضعفه، كان كالجبال التي لم تنقص الكهوف من شموخها.

وحين بدأ يتماثل للشفاء قدر الله له أن يصاب بالتهاب رئوي حاد وشرس أوقف كل خطط العلاج، فبدأ المرض يغزو جسده مرة أخرى حتى وصل لمرحلة يصعب فيها علاجه، حتى وافته المنية في يوم الرابع عشر من شهر فبراير الماضي. مات أبي شامخاً مهيباً عظيماً، وخلف وراءه حزناً لا تقوى السنين على ابتلاعه، لم يكن رجلاً عادياً حتى يكون حبي له عادياً، أحببته لأنه كان أكثر من مجرد أب، فهو كان بالنسبة لي أباً وصديقاً وملهماً ومحاوراً وعرّاباً ورفيق درب وحكاية.. فإن كانت خسارة الأب فقط مؤلمة ولوعة حزنها مرة، فكيف بي أفقد كل هؤلاء؟

أحببت روحه المسكونة بالطفولة، وفكره الذي يتسع لجميع الآراء والأفكار، أحببت حتى ألمه وقدرتي على معالجته، أحببت ذلك السلام المزروع في ملامح وجهه الهادئ المريح؛ أحببته لأنه كما هو، بشوش الوجه يصنع الفرح أينما حل، مثقف، له حافظة قوية بالشعر والقصص.

كان محبوباً من قبل الجميع، فلم يهدأ هاتفه منذ أن حط في الولايات المتحدة، وكان رحمه الله يستقطع من وقته يومياً ليبشر أصدقاءه بشفاء قارب على المجيء، ويرد على رسائل تنتفض شوقاً إليه، رسائل واتصالات لم تتوقف عن الحضور يوماً محملة بمشاعر عابرة للقارات.

فأي أب كنت يا أبي؟ وأي حزن سيطغى على حياتي من بعدك؟ كيف هي الحياة من بعدك؟ كيف سيبدو البيت بدونك؟ كيف هي الشوارع؟ كيف سأرى ذات الوجوه التي أحببتها، دون أن أحدق فيها بحثاً عنك وعن ملامحك؟ كيف سأمشط ذات الشوارع دون أن أتذكر أحاديثنا ومشاويرنا عبرها؟ كم هي شاحبة مظلمة الصباحات من بعدك.. كم هي مملة وخانقة الدنيا بدونك.. دلني أين أجد ابتساماتك وحنانك.. سأسافر لأقاصي الدنيا من أجلها، فقط أخبرني أين أجدها فأنا أبحث عنك في كل مكان، أريد أن أشعر بلذة الأمان مرة أخرى، فلا أجدك..

وأكتشف أن تعويضك أكثر إعجازاً من وجودك. لا أقوى على وداعك حتى بالكلمات، لكنك ستبقى نجماً مشعاً في سمائي، وتاجاً ثميناً على رأسي. ستبقى حاضراً في أحاديثي.. في بريق عيني.. في صلواتي.. في خطواتي.. في دمعاتي وابتساماتي. فإلى الله.. إلى سدرة المنتهى، ثم إلى جنة المأوى والرفيق الأعلى والكأس الأوفى.. إلى جنان الرحمن بإذن الله تعالى.