من المعلوم أن دساتير الدول تسمو وتسود على كل تشريع وقانون في نطاق الدول التي تخصها. ومواد الدساتير لغتها قانونية صرفة موجزة لا يقبل على قراءتها إلا من له قدر من التفكير المجرد والإلمام بالتشريع والقانون، وبقدره يستطيع النفاذ لمرامي مواده. أما إذا ما أردنا إدراك نفس وروح الدستور فلا بد من إلمام بمعارف أكثر وأشمل عن ثقافة وتاريخ الدولة المعنية والسياق التاريخي الذي من رحمه ولد ذلك الدستور تنظيما لحياة ذلك المجتمع كمرجع أعلى، حيث لا يعقل كتابة أي دستور بما يناقض واقع مقتضى حال أي مجتمع وإلا فلا حياة لمواده المنفصمة عن مقتضى الحال إلا الجمود دون النفاذ في الواقع المعاش. وقراءة روح ونفس الدساتير مادة مشوقة لشرائح أكبر من المجتمع بما يرد في الشروح من سرد وبيان وتوضيح، وللأسف أنها مبثوثة في مختلف الكتب ولا يجمعها كتاب، ودون ذلك فالدساتير ليست إلا هياكل عظمية لا تسر الناظرين إلا رجال القانون والمختصين من منظري الدساتير.
هذه محاولة لقراءة روح ونفس المادة 25 من دستور دولة الإمارات التي تقول: «جميع الأفراد لدى القانون سواء، ولا تمييز بين مواطني الاتحاد بسبب الأصل أو الموطن أو العقيدة الدينية أو المركز الاجتماعي». ولا يمكننا قراءة هذه المادة إلا بقراءة المادة السابعة من دستور الإمارات التي تقول: «الإسلام هو الدين الرسمي للاتحاد، والشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع فيه، ولغة الاتحاد الرسمية هي اللغة العربية »..
وبناء على ما تقدم فإنه بالضرورة الوعي اليقيني لقول رب الخليقة تعالى في سماه في محكم كتابه: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير). فالخطاب في الآية الكريمة لكافة الناس دون أي تمييز لجنس أو عرق أو ديانة أو ملة، ذلك أن الخالق قد خلق البشر من ذكر وأنثى وجعلهم شعوبا وقبائل، هكذا اقتضت حكمته ومشيئته، والأفراد لديه لا يتمايزون إلا بالتقوى فقط، دون غيرها من الصفات.وبقراءة التاريخ على عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم نرى دلائل ذلك ساطعة مشرقة بسيدنا بلال الحبشي (العبد سابقا) الذي رفعه أذانه أن يكون سيدنا نحن المسلمين ما دامت راية الإسلام، وسلمان الفارسي الصحابي الجليل الذي قال عنه النبي «سلمان منا آل البيت» وهو الذي قال يفاخر وله كل الحق في ذلك ولم ينكر عليه عبر التاريخ العربي أو الإسلامي ذلك التفاخرإلى اليوم:
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم بينما أبو لهب عم النبي كان أبعد الأبعدين فتبت يداه وما أغنى عنه جاهه ولا ماله ولا قرابة نسبه للنبي.
وثقافتنا في الإمارات، إضافة لذلك، لها تمايز تاريخي خاص للمقاصد سابقة الذكر بحكم الجغرافيا والبيئة ذات الموارد الطبيعية المحدودة فكان الاعتماد على زراعة الشجرة المباركة النخلة وما تجود به الواحات من محاصيل والصحاري من مراعي، والنوق - سفن الصحاري - وحليبها في البر. وفي البحر الغوص على اللؤلؤ وصيد الأسماك ونقل البضائع بخطوط امتدت للبصرة (إللي ما يشوفها يموت حسرة) والمقصود هنا أن الذي لا يرى نخيل البصرة في ذلك الزمان يموت من الحسرة على عدم رؤيتها وخيراتها، مرورا بمختلف الموانئ على ضفتي الخليج وكذلك نقل البضائع لغرب الجنوب لدار السلام وزنجبار مرورا بعدن ومقديشو، ولشرق الجنوب إلى كاليكوت مرورا بجوادر وكراتشي وبومباي. خطوط النقل البحري كانت خطوط تلاقح ثقافي وحضاري واختلاط وتزاوج ترك أبلغ الأثر في جميع المحطات وبالطبع كان لذلك أبلغ الأثر على الإمارات. لهذا يدهش جميع من زار الإمارات بتعدد الأجناس والأعراق والملل والنحل، وعدم مشاهدتهم الصدامات بين هذه الفئات كما هي في أوطانها، والتزام جميع فئات الأجناس بالنظام العام كما لا يلتزمون به في أوطانهم التي أتوا منها على الرغم من أن الإمارات قبلية عشائرية في أصولها وهويتها!
إن المناداة بالتخلي عن الانتماء القبلي والعشائري مناداة لا محل لها من الإعراب في الإمارات ولتعارضها مع هوية هذا الوطن وروح دستوره كما سردنا آنفا، أما العصبية القبلية التي نبذها الإسلام فهي منبوذة في الإمارات والتي أوجزها قول الشاعر:
وما أنا إلا من غُزَيَّةَ إن غوت غويت وإن ترشد غُزَيَّةُ أرشد كذلك نرى اليوم أن قبائل وعشائر اليوم العراق المبتلى بمختلف القوى الناهشة في لحمه وتكالبها عليه هي طوق نجاته وسداته ولولاها لتفتت، فصحوات القبائل والعشائر هي من حجم نفوذ القاعدة، المتنامي حينها والمنفلت من عقال سماحة الإسلام ومنابعه الصافية، بينما عجز عن لجم نفوذها جميع أحزابه التقدمية، وهي التي تمتص اليوم الصدامات المذهبية الجاهلة المجهلة وهي طوق نجاته في آخر المطاف من مآلات التطاحن المذهبي بالتشظي المؤجج من الخارج.
وفي الغرب الحديث اكتشفت البصمات الجينية للبحث في الأصول والأعراق لفك طلاسم الانتماء بين الناس وتحديد النسب والوراثة في حال الخلاف، وبها ثبت بطلان نقاء دم الصهاينة الذي به يدعون بالحق التاريخي في فلسطين تلفيقا وزورا. كما سبق وأن قرأ العالم الكتاب الرائد الذي كانت له أصداء واسعة في البحث عن الأصول الإفريقية لزنوج الولايات الأمريكية المتحدة الذي كتبه الكس هالي «الجذور» كما نجد الدراسات المتخصصة في مختلف فروع علم الأنثروبولوجيا.
كما نرى مواقع الفيس بوك التي بنيت على فكرة الصفحات التي تضم صور زملاء الدراسة في الجامعات الأمريكية ونقلت هذه الفكرة لفضاء شبكة المعلومات الانترنت لتعم طوائف أخرى من الناس في أرجاء المعمورة. والدارسون في أي جامعة هم طائفة من الناس جمعهم معهد دراسة ولذلك لديهم بصمته في نمط التفكير والاجتماع واللغة والنطق، وهذا ما يلاحظ على خريجي الجامعات العريقة ذات التقاليد الراسخة ممن درسوا في جامعة اكسفورد وتمايزهم عمن درسوا في كمبريدج، وكذلك نلاحظ تمايز من درسوا في جامعة الأزهر من الأزهريين عمن درسوا في سائر الجامعات، وكذلك أفراد القبائل تجمعهم بصمات القبيلة في اللهجة والعادات والأخلاق من بين الكثير من الصفات الأخرى، واليوم نجد منتديات لقبيلة كذا ولقبائل أخرى على الإنترنت في عالمنا العربي.
لجميع ما تقدم ليس لنا إلا أن ندعو جميع المنادين بشطب القبائل والعشائر من مفردات التعريف في لغتنا أن يقرءوا تاريخنا وقرآننا وعلوم العصر الحديث قبل تدبيج مقالاتهم لتحمل معان ذات قيم أسمى وأعمق من التثقيف، يمكن قراءتها ويشكرون عليها بدلا من نشر الجهل والتجهيل بالأصول وكأن ذلك من سمات التمدن والتحضر، بينما نرى العالم المتحضر يبذل الكثير في سبيل معرفة أصول الجمال والخيول والقطط والكلاب واستنباط أصناف مطورة ومحسنة من الأشجار والنبات من بعد تأصيل الأصناف! لذا فمجموعات الفيس بوك والتويتر ليست إلا مجاميع قبلية أخرى في العصر الحديث!