يبدو أن اليابانيين قد استفادوا من الدروس التاريخية التي مرت عليهم طوال قرون عديدة، ليبدؤوا باكرا خطة تقشفية فريدة من نوعها. والطريف أن ما جرت عليه العادة هو فرض الحكومات خططا تقشفية على الاقتصاد، في حين نجد أن الآية أصبحت مقلوبة هناك في اليابان؛ فمنذ أن ضربها زلزال تبعه تسونامي في الحادي عشر من الشهر الماضي، واليابانيون يغالون في التقشف زهدا وتعاطفا مع إخوانهم الذين تضرروا من الزلزال، في الوقت الذي تطالبهم الحكومة اليابانية مرارا وتكرارا بالعودة إلى ممارسة حياتهم الطبيعية دون اللجوء إلى التقشف غير المبرر!
ولكن المتأمل في وضع الياباني الذي عاش فترات ازدهار ونمو اقتصادي، وصلت إلى معدلات غير مسبوقة، يجد أنه لا ينسى أبدا أن الحفاظ على الموارد قد يتيح فرصة للآخرين للتمتع بنفس المستوى من الحياة. وقد يراهن البعض على أن اليابان قادرة على استعادة مكانتها الاقتصادية، وعلى كسب التحدي في مواجهة الآثار المدمرة التي خلفها الزلزال والتسونامي، والبعض يصفها بطائر الرخ الذي يخرج من الرماد حيا، وربما تعود هذه الثقة إلى تفوق اليابان على نفسها بعد ضربها بقنبلتين نوويتين عام 1945، ومع ذلك استطاعت أن تخرج منتصرة في المعركة الأهم وهي معركة النمو والبناء. فقد قام اليابانيون بثورة تكنولوجية وصناعية وزراعية وعلمية، وأصبح للياباني صوت في عالم التجارة الدولية، وبصمة في عالم الصناعة، وتميز في قيمه الثقافية والاجتماعية، وأصبحت العادات والسلوكيات اليابانية مضرب المثل، بل استطاعت أن تحقق ما لم تحققه الدول الكبرى، في مجال صناعة الإنسان قبل صناعة المادة، واستطاع نظام العمل في اليابان أن يلمس كثيرا من التفاصيل الخاصة التي تؤدي إلى نمو الإنتاجية لدى الموظف، من خلال تحقيق معادلة الجودة التي انتشرت فيما بعد في العالم بأسره.
وكانت اليابان مصدرا للإلهام لكثير من الدول والقطاعات الإنتاجية العالمية، وزاد الاهتمام الغربي بنظام الاقتراحات وحلقات الجودة اليابانيين خلال ثمانينات القرن الماضي، وتم تعميمها في عدد كبير من الشركات الأمريكية، مثل IBM وجنرال موتورز ولوكهيد، بعد تكييف هذه الأساليب لتلائم بيئة العمل المحلية. إن الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر على اليابان في هذه الفترة، تكلفها حوالي 235 مليار دولار هي خسائر الزلزال، وموت أكثر من 13 ألف شخص، والمفقودون بالآلاف، وإخفاق معلن في احتواء الأزمة النووية في محطة فوكوشيما، إلا أنها تذهب في هذه الظروف إلى البحث عن سعادة ورضى الناس في مختلف الأماكن، فهي لا تتوانى عن تعليق كاميرات خفية في محطة السكك الحديدية، لتقوم بقياس الابتسامات التي يمنحها موظفوها للعملاء. فالثقافة اليابانية في العمل تعتمد على أهمية إتقانه حتى ولو كان مجرد «ابتسامة»..
من ناحية ثانية، يعود التطور الياباني والتفوق إلى عدة عوامل ومعطيات، فبالإضافة إلى سياسة القرارات الجماعية، وعادة التقشف وعدم تبذير الأموال في الكماليات، نجد أن إصلاح نظام التعليم وبناء مجتمع المعرفة، يعد سرا من أسرار المعجزة اليابانية في العصر الحالي، حيث عمدت الحكومة بعد خسارتها في الحرب العالمية الثانية إلى بناء مجتمع المعرفة، فأصدرت أمرا بجعل التعليم إجباريا لـ9 سنوات حتى محت الأمية سنة 1980 بسنة 99 ٪. ولحاجتها إلى التكنولوجيا المتطورة، وبالتالي إلى الأيدي الماهرة، قامت بإرسال بعثات طلابية منتقاة بدقة إلى الخارج لنقل التحديث إلى اليابان، كما قامت بوضع ميزانية عالية للبحث العلمي، لإنتاج تكنولوجيا محلية وإعادة تصديرها إلى الأسواق الدولية وربطت خريجي الجامعات بها. ولم ينكفئ اليابانيون على أنفسهم في ما يخص التكنولوجيا المصنعة محليا، بل قاموا بإعادة إنتاج التكنولوجيا الغربية مع تطويرها وتطويعها بما يناسب ثقافتهم، واشتروا براءات الاختراع من دول العالم (76000 اختراع)، وبذلك جمعوا بين إنتاج التكنولوجيا واستهلاكها.
وبالإضافة إلى العامل السياسي الذي خلق مناخا صحيا لهذه التجربة الفريدة كي تنجح وتنمو وتزدهر، فإن الثقافة اليابانية الأصيلة لعبت دورا في حب الحياة والأرض والتفاني من أجل الجماعة، بعيدا عن النظرة الفردية الذاتية. فلدى الياباني قدرة كبيرة على تقديم التنازلات لصالح الغير، واستطاع المجتمع مرارا وتكرارا أن يعيش وحدة نموذجية لمجتمع متماسك، من خلال الاستفادة من العقل البشري لأقصى الحدود الممكنة، إضافة إلى تجانس الشعب الياباني الذي يعد من أكثر شعوب العالم تجانسا، لذا نجد تقارب مستوى المعيشة بين الناس، حيث 90 ٪ من ذوي الدخل المتوسط، و10 ٪ نسبة الأغنياء والفقراء فقط، والنسبة بين أعلى وأدنى راتب في الشركة الواحدة لا تتعدى عادة سبعة أمثال. ورغم ذلك يتجه الجميع إلى الادخار ماليا من أجل الاستثمار، حيث يصل الادخار إلى 25 ٪ من الأجر أو الراتب، أي ما يزيد على مليار دولار يومياً! يتمتع الياباني كذلك بالإرادة والرغبة في التحدي التي لا تعرف للمستحيل سبيلاً، وهذا ما رأيناه جليا بعد الزلزال الأخير، فالانضباط كان واضحا على كل اليابانيين.. وهكذا تظل اليابان ملهمة حتى في أحلك الظروف.