من يمسك بالسودان يمسك بالخاصرة الجنوبية للأمن القومي العربي.. فهو أكبر البلاد العربية مساحة (‬2,5 مليون كم مربع) ومن أكبرها ثروات واعدة (عبر البترول ويورانيوم حفرة النار)، كما أن حدوده مع ‬9 دول عربية وإفريقية هامة تركز عليها الإستراتيجية الأميركية، تجعله في مهب الريح. انفصال جنوب السودان الوشيك عبر استفتاء ‬9 يناير لن يكون نهاية المطاف، بل بدايته وبداية متاعب جمة لمصر، إذ إنها من الناحية الإستراتيجية مهددة بفقدان ظهيرها الجنوبي، حتى إذا لم يمس أحد حصتها في مياه النيل وهو أمر مشكوك فيه. ينتظر السودان مخطط تقسيم إلى أربع دول.. دولة في الجنوب تحاول واشنطن ضم منطقة أبيي الغنية بالنفط إليها، تمهيدا لعودة الشركات الأميركية الكبرى وحرمان الصين من وضع يدها على مصدر للطاقة. دولة في دارفور لوضع اليد على حفرة النار التي تسيل اللعاب، لكونها تضم مخزونا ضخما من اليورانيوم النقي، ما يجعلها واحدة من أكبر مواقع العالم لهذا المعدن النادر.. وأخيرا وضع مخطط تأليب ساحل السودان الشرقي الممتد ما بين بورسودان وحتى كسلا في اتجاه الحدود الاريترية، مستثمرين تمرد قبائل البجا.

نحن إذن أمام فتات منتظر من دويلات متصارعة، تنقل الوباء الصومالي إلى ما كان دعاة الوحدة يعتبرونه سلة غذاء العالم العربي المنتظرة. ما قاد إلى تسريع تفتيت السودان هو وجود ظهير محلي له كان يربض للأسف في حزب المؤتمر الوطني الحاكم، الذي أصبح شريكا في المناقشة وتكريس الخطط الغربية والإسرائيلية وإلباسها ثوبا قوميا وعقائديا بريئا منها.. فمن يقرأ ورقة قدمها عبد الرحيم حمدي وزير المالية السابق، إلى مؤتمر للحزب السوداني الحاكم عن مستقبل الاستثمار، يدرك أن صناع السياسة في الخرطوم ظلوا ينظرون إلى المخططات ببرود.. وكأنهم يبحثون شأنا يحدث في جزيرة هاواي، فالرجل يرى أن فكرة السودان العربي الإسلامي أو ما أطلق عليه «محور دنقلا ـ سنار + كردفان»، هو الأكثر تجانساً وعملية.. وأن لديه إمكانية الاستمرار كدولة فاعلة بعد انفصال الجنوب ودارفور والشرق، رغم أن ذلك يحرم هذا السودان المقزم من ‬65٪ من موارد الميزانية العامة للدولة. كانت رؤية الخرطوم قائمة على أن الغرب يحاول تحويل الوحدة إلى ميكانيزم لتفكيك السودان وتسليم زمام حكمه لأقلية غير عربية أو إسلامية، كما فعل المستعمرون السابقون بكل دول الحزام العازل للاسلام جنوب الصحراء.

لم تعد واشنطن تخفي نواياها في السودان، فالموفد الأميركي سكوت غريشن يتحدث صراحة عن أن سيناريو الجنوب يمكن أن يتكرر في دارفور وشرق السودان، كما أن تحالفا بين وكالة السي آي ايه والموساد ودي جي سي الفرنسية، يقوم بنشاط محموم انطلاقا من قاعدتين في تشاد وجيبوتي، وأن هناك بالفعل أسلحة يجري تهريبها إلى جنوب السودان تشمل دبابات وطائرات وقنابل ومدافع، تمهيدا لمواجهة محتملة بعد الاستفتاء. ورغم أن شريكي السلام والانفصال في السودان يؤكدان حتى اليوم عدم نيتهما التقاتل، إلا أن تسريب تقارير عن خطط دولية للتعامل مع نزوح مليونين ونصف مليون سوداني عقب الاستفتاء، يشي بأن الشيطان سيكون حاضرا هناك ولن يقنع بتراضي الشريكين وإن رضيا.

رغم الضعف والتردي الذي كان عليه السودان والعالم العربي، إلا أن المخاوف من نشوء دولة إقليمية قوية تمتلك كل مقومات الاعتماد على الذات والتأثير في مجريات المنطقة، بقي هاجسا إسرائيليا أميركيا.. ويبدو ان تحالف البلدين يحاول الاستفادة من تجربة فرعون التاريخية في قتل كل مواليد بني إسرائيل الجدد، خوفا من محرر تحدثت عنه نبوءة.. لكن الزمان انقلب، فالفرعون التاريخي مسكنه الآن تل أبيب وواشنطن.. وبنو إسرائيل المستهدفون اليوم ليسوا إلا العرب!

الذين ربما يستكثرون هذا التشبيه، يمكنهم مطالعه أقوال دونالد باترسون السفير الاميركي السابق في الخرطوم، وآفي ديختر الوزير السابق للأمن الداخلي الإسرائيلي، الذي يؤكد حرفيا أن «السودان من الممكن أن يصبح دولة إقليمية قوية، لهذا سعت إسرائيل إلى تفتيته لقطع الطريق على هذا الاحتمال، والجميع من بن غوريون إلى أولمرت تبنوا نفس الخط الاستراتيجي».