من المصطلحات التي لفتت نظري، وأنا أتابع أحاديث المحللين السياسيين والعسكريين والخبراء الاستراتيجيين وحواراتهم على شاشات القنوات الإخبارية، مصطلح «النزول من فوق الشجرة».

بحثت عن أصل المصطلح ومعناه، وعن أول من استخدمه في المجال السياسي، فوجدت أن كثيراً من الباحثين في الخطاب السياسي العربي يرجحون أن يكون الرئيس المصري الراحل أنور السادات هو أول من استخدم هذا المصطلح في سياقٍ سياسيٍ.

وقد ورد عنه في أكثر من مناسبة خلال مفاوضات السلام مع إسرائيل، وفي تعليقه على مواقف قادة عرب أو خصوم سياسيين، قوله: «علينا أن نساعدهم على النزول من فوق الشجرة»، أي أنه لا ينبغي إحراج الأطراف الأخرى، بل مساعدتها على التراجع عن مواقفها بطريقة سلسة تحفظ لها كرامتها، أو بتعبير آخر، تصون ماء وجهها.

هذا المصطلح استُخدم خلال الآونة الأخيرة في كثير من المواقف والأزمات السياسية، مثل مفاوضات إيران والغرب حول الملف النووي، والحرب الإسرائيلية الإيرانية، وارتفاع التوترات بشأن التنقيب عن الغاز بين تركيا واليونان.

وخلال الخلافات السياسية حول تشكيل الحكومات في لبنان، وغيرها. ولعل المحللين السياسيين والعسكريين والخبراء الاستراتيجيين وجدوا فيه طابعاً أدبياً لطيفاً يخفف قليلاً من وقع السياسة الثقيل على بعض النفوس، ووقع القتال الأكثر ثقلاً.

النزول من فوق الشجرة يتطلب الصعود إليها أولاً، وفكرة صعود الشجرة ذكرتني بمسرحية الكاتب المصري توفيق الحكيم «يا طالع الشجرة» التي تنسب إلى مسرح «العبث» أو «اللامعقول».

وهو تيارٌ مسرحيٌّ نشأ في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، يعبر عن حالة الاغتراب الإنساني وفقدان الهدف في عالم يفتقر إلى النظام أو الغاية. فكرة المسرحية، التي نشرها الحكيم عام 1962م، تنطلق من أغنية شعبية كان يرددها الأطفال والصبية، تقول كلماتها:

«يا طالع الشجرة.. هات لي معاك بقرة». وهي فكرة غير معقولة طبعاً، إذ لا يُعقَل أن تكون هناك بقرة فوق الشجرة، مثلما قال ذلك الصبي الفَطِن، عندما سأله الحكيم عن معنى كلمات الأغنية التي كان يرددها.

العبثيّون هم مجموعة من الأدباء المُحدَثين والطليعيين الذين تأثروا بنتائج الحروب العالمية المدمرة والويلات والدمار المادي الذي طال أوروبا، فرأوا أن جميع النتائج التي نجمت عن تلك الحروب سلبية، خلقت نفسيةً سيطر عليها انعدام الثقة في الآخرين.

فكان انعزال الإنسان الأوروبي وفرديته، الأمر الذي أدى إلى ظهور مفهوم مسرح «اللامعقول» أو «العبث». فهل ما يدور هذه الأيام من حروب يدفعنا إلى مرحلة جديدة من «اللامعقول» و«العبث» بمصائر الدول والشعوب؟

الشجرة الوحيدة التي كانت في مسرحية الحكيم هي شجرة البرتقال المزروعة في حديقة بيت الزوجين، بطلي المسرحية؛ تلك الحديقة التي لا تتسع لأكثر من شجرة واحدة.

والغريب أن أحداً لم يطلع شجرة البرتقال تلك طوال أحداث المسرحية التي تنتهي بقتل الزوج لزوجته ودفنها تحت الشجرة، لا فوقها.

أما الشجرة التي يتحدث عنها المحللون السياسيون والعسكريون والخبراء الاستراتيجيون فلا نعلم على وجه التحديد نوعها، ولا نعرف ما إذا كان أحدٌ مدفوناً تحتها. كل الذي نعرفه عنها هو أن ثمة من صعد فوقها، وأنه مطلوب إنزاله من فوق الشجرة.

هكذا تقتضي أصول اللعبة التي يربح فيها الكبار فقط، أما الصغار الذين يدخلونها معتقدين أنهم هم الذين يديرونها، فهم الخاسرون دائماً، لأنهم ليسوا أكثر من بيادق صغيرة على رقعة شطرنج كبيرة، والبيادق محدودة القدرة على الحركة، حتى لو بقي عدد منها حياً إلى نهاية اللعبة.

خلال الحروب التي اندلعت في منطقة الشرق الأوسط خلال العامين الأخيرين، رأينا الكثيرين يصعدون فوق الأشجار. نزل عدد منهم، وبقي عدد فوقها بانتظار من ينزله، أو على أمل أن يتمكن من النزول بنفسه قبل أن يهوي من فوقها أو يتم اجتثاث الشجرة من جذورها ويتم اجتثاثه معها. فمن سينزل من فوق الشجرة، ومن سيبقى فوقها؟

الأخبار التي حملها لنا هذا الأسبوع عن التحركات التي تحدث هنا وهناك تقول إن عدد المرشحين للنزول من فوق الأشجار كبير، يجمع بينهم أنهم كانوا جميعاً بيادق صغيرة على رقعة الشطرنج الكبيرة، فهل ترانا على مشارف مرحلةٍ تعيد لنا مشهد الحجاج بن يوسف الثقفي وهو يصعد فوق المنبر ليطلق مقولته الشهيرة: إني أرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها؟