إن التفكير بالبعد النفسي الذي تبناه المفكر والكاتب المغربي سعيد ناشيد في كتابه «نقد القوة» عندما كتب: «لكل قرار إنساني توقيت محدد، وتقرير ذلك موكول لذكاء الجسد»، (لكن المشكلة أنك كثيراً ما تتأخر في الإصغاء إلى جسدك، وذلك هو عطب الكثيرين)، جاء ذلك كجرس إنذار مدوٍ، لنسأل هل حقاً دخلنا في مرحلة التبلد الحسي والتأقلم على «الكبوات النفسية» أو الاكتئاب كأنه حقيقة مُسلم بها في عصر متسارع؟ أم أننا بتنا بتلك الصلابة التي تمنحنا القدرة على العيش الروتيني في مناخ نفسي هش؟

اليوم، لم يعد الاكتئاب مجرد اضطراب عابر على هامش التجربة البشرية، بل بات السمة النفسية الأبرز لعصرٍ يقدّس السرعة والإنتاج ويخجل من التعب والتواري، لقد صار التعب تهمة، والتوقف عن الركض خيانة، أما الفشل، فهو ما يُدفن في العمق، بعيداً عن الأنظار، كما لو كان عاراً لا ينبغي أن يُرى!

ففي مجتمعٍ لا يعترف إلا بمقاييس صارمة للنجاح، لا يجد الفرد نفسه إلا في حالة إنكار دائم لهشاشته، يُعاد تشكيل الذات يومياً تحت ضغط المعايير الأسمى، ومقاييس الأداء الأعلى، وهاجس المقارنة، كل لحظة صمت تُعدّ هدراً، وكل تعثّر يُحسب إخفاقاً، وكل محاولة تأمل تُوصف بالكسل، هكذا، يتكون المناخ النفسي الهش ويتشكل بهدوء روتيني، دون أن نشعر به وهو يدلف أعماقنا، ليجعل من كل «كيان» مشروعاً معطوباً قبل أن يبدأ، ومحاصراً بذنب مزمن بأنه «ليس كافياً».

إلا أن الفرد الذي لم يسقط، ولم يتعلم كيف ينهض، ولم يختبر الهشاشة، لن يعرف متى تُستعاد القوة، فبعض المجتمعات لا تحتفي بالفشل كدرس، بل تتجاوزه على عجل، إنها ثقافة لا تمنح وقتاً للتعافي، ولا شرعية للتراجع، وهذا مع الوقت يتجذر في النفس البشرية ليعكس ما قرأته مؤخراً للفيلسوف الكوري بيونغ تشول هان الذي أشار أن قمع الإنسان المعاصر لا يتم عبر سلطة خارجية، بل عبر الاستغلال الذاتي المكثف، حيث يغدو الفرد هو الجلاد والمجلود في آن واحد.

وحقيقة، لا تدهشني الأرقام التي وثقتها منظمة الصحة العالمية والتي تشير إلى أن عدد المصابين بالاكتئاب عالمياً تجاوز 280 مليون إنسان، وأتساءل هنا، هل يعكس هذا الرقم أزمة صحية حتمية فقط؟ أم هو تعرٍ لفشل النموذج النفسي الذي تبنّته الحداثة؟ النموذج الذي يربط الوجود بالقيمة السوقية، ويحوّل الحرية إلى عبء، ويُحمّل الفرد وحده مسؤولية كل إخفاق، وهذا الإنهاك لا يُنتج الاكتئاب فقط، بل يصبح قلقاً وجودياً مزمناً، وهذا يُحيلنا إلى أصل النشأة والتربية، والطفولة المبكرة، وكيف تعلمنا الوثوب بعد السقوط الأول، هل كان سهلاً..؟ أم محملاً بخيبات؟ ورغم أن هذا الافتراض أصبح بعيداً جداً في أصل تكويننا، إلا أن تمكين الروح القتالية القادرة على التجاوز والتخطي والتعامل بمرونة مع ضغوطات العمل والحياة التي لا تكف عن التناسل هو حل أكثر واقعية، بدل أن نصبح «الجوهاتسو» الجديد وهو بالثقافة اليابانية «الشخص المُتبخر»، وكأنك لم تكن، ويلجأ الناس لوكالات متخصصة في اليابان لتخفيهم تماماً ليصبحوا بهويات جديدة بعد إصابتهم باكتئاب أو فشل في عمل أو غيرها من الأسباب، التي تدفع المرء بأن يكون شخصاً جديداً كُلياً، بدل مواجهة ضعفه، والسماح لكل تلك الخيبات أن تسكن ليبدأ من جديد بشكل مختلف.

في خضم هذا المناخ النفسي المتوتر، تبرز الحاجة لا إلى علاجٍ طبي فقط، بل إلى تفكيكٍ فكري للعقيدة الحداثية ذاتها المرتبطة بالكمال في الإنجاز، فتحسين شروط النجاة حاجة مُلحة لصون الكرامة البشرية، فلا بأس أن نسقط، وليس الاكتئاب جريمة، وليس الكمال صفة نصلها بالعمل، بل بالاتزان الداخلي، والسلام الروحي، والتعامل الأمثل مع التحديات بصبر ورَوية، نحن بحاجة إلى لحظة وعي نستعيد فيها كرامتنا البشرية، فالحياة ليست بورصة ترتفع بها أسهم الاستحقاق أو تهبط، هي تجربة إنسانية كمالها في نقصها، خارج ضغط الإنتاج، وخارج قفص المقارنة الدائم، فربما يكون أصدق فعلٍ تحرّري اليوم هو:

أن نمنح أنفسنا «حقّ التعب».. دون شعورٍ بالذنب.