على مدار عمر الصراع العربي ـ الإسرائيلي وفي كافة مفترقات طرقه ومفاصله التاريخية، عمد الاحتلال الإسرائيلي ليس إلى استخدام قوته العسكرية الغاشمة ـ المدعومة أميركيًّا ـ لإهالة التراب وإحراج أي تحركات سياسية رامية إلى فضح نواياه الاستعمارية وعدم جديته في خوض العملية السلمية فحسب، وإنما أيضًا إلى إشاعة الفتن وحبك المؤامرات، لخلط الأوراق والتغطية على سياساته العدوانية ولصوصيته ذات التاريخ الطويل، مستثمرًا عوامل الزمان والمكان، ومستغلًّا نواتج مؤامراته ودسائسه وفتنه لتحقيق أهدافه، وإحداث وقائع جديدة على الأرض تصب في صالح احتلاله واغتصابه للحق الفلسطيني.
والحق أنه لا يمكن الفصل بين هذا الواقع المدعوم تاريخيًّا وما يعتري المنطقة من أحداث ومتغيرات سياسية وأمنية، تشير طبيعتها وطريقة صناعتها إلى وجود أصابع إسرائيلية خفية، فقد كان لافتًا محاولة الاحتلال الإسرائيلي استغلال الحراك الشعبي الفلسطيني حول الوضع الاقتصادي والمعيشي الصعب في الضفة الغربية الذي تقف أساسًا وراءه سياسات الاحتلال الإسرائيلي، حيث حاول أفيجدور ليبرمان وزير خارجية الاحتلال الإسرائيلي الصيد في الماء الذي عكره الاحتلال بتجديد ترديد تلك الإسطوانة المشروخة بالهجوم على الرئيس الفلسطيني محمود عباس قائلًا إنه لا يمكن إنقاذ سلطة الرئيس عباس لأنه يتواجد في ما وصفه بـ"الوقت الإضافي"، وأن "سقوط" عباس "أصبح مسألة وقت فقط بعد أن فقد ثقة الجمهور الفلسطيني"، داعيًا بقية عصابات الاحتلال الإسرائيلي إلى تقييم علاقة الاحتلال مع السلطة الفلسطينية، ومُخَطِّئًا حكومة الاحتلال حين حولت الأموال للسلطة الفلسطينية التي تدفع مبالغ كبيرة للأسرى، على حد زعمه.
رئيس الحكومة الفلسطينية سلام فياض بدوره كان واضحًا في إرجاع أسباب التراجع الاقتصادي والمعيشي في الضفة الغربية بأن سياسات الاحتلال الإسرائيلي وعدم وفاء الجهات الدولية بالتزاماتها المالية أضعفا مكانة السلطة الفلسطينية، ما جعل السلطة تعاني من ضعف قدرتها على الاستجابة لاحتياجات الفلسطينيين ومعالجة الآثار المترتبة على صعوبة أوضاعهم المعيشية.
وللمتابع لما يدور في المنطقة من أحداث وما يدور على أرض فلسطين المحتلة من ممارسات عنصرية للاحتلال بحق الشعب الفلسطيني أن يقارن ليخلص إلى أن ما يجري في المنطقة من زلازل "الفوضى الخلاقة" وما يتلوها من توابع، وما يتم إعداده من مخططات ومؤامرات، لا مستفيد منه سوى الاحتلال الإسرائيلي وحلفائه فقط، ولا متضرر منه سوى الشعوب العربية وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني الذي يحصد الآن أضعاف ما حصده من قبل من انتهاكات وجرائم حرب إسرائيلية ضده تتناقض مع القانون الدولي، وتصاعد اعتداءات قطعان المستوطنين الإرهابية والإمعان في سياسة الاستيطان وسياسة التهويد الممنهجة، وتدنيس المساجد، وتصاعد عمليات النخر والحفر بأساسات المسجد الأقصى.
إن هذه الأحداث، سواء داخل فلسطين المحتلة أو في دول المنطقة لتدعو إلى التسليم بضرورة الاعتراف بأن الاحتلال الإسرائيلي طوَّع الانشغال العربي بفوضى ما يسمى "الربيع العربي" والذي واكب تفاعلاتها لتعطيل أي تحرك جدي يضع القضية الفلسطينية من جديد في دائرة الضوء. وعلى الرغم من انبلاج هذه الحقيقة فإن هناك من لا يزال أسيرًا لرؤى وأفكار مغايرة لحقيقة ما يجري تروجها أبواق إعلامية لها أجنداتها وارتباطاتها الخاصة، ويبقى الأمل أن تزول هذه الغشاوة سريعًا قبل أن يصبح المبتلون بالفوضى على لا شيء.