لا أجد أمراً مثيراً للاستغراب أو الاستنكار ربما، من ذاك الذي يقرر أن يترك أصدقاءه، هكذا فجأة، فقد اكتشف (كما يقول) أنه بعد حوارات ونقاشات ومواقف معهم، أنهم لم يعودوا يقفون معاً على نفس الأرض! أو في نفس المكان، فقد تغيرت أفكاره، وتغيرت نظرته وقناعاته، ولم يعد بإمكانه أن يواصل المضي معهم، وبدل أن تكون هذه الصداقة حصيلة العمر والأيام، صارت عبئاً يسعى للخلاص منها، لأنها تستنزف وقته، وتجعله في صدامات دائمة مع أصحاب الأمس!

والحقيقة أننا لا نتغير فجأة، ولا نكتشف أصدقاءنا فجأة، والاختلاف في داخل مجموعات الأصدقاء من الأمور البديهية، لأن الأصدقاء ليس مطلوباً منهم أن يكونوا نسخاً من بعضهم، فأكثر جماليات الصداقة هي قدرتنا على الاستمرار فيها رغم أننا مختلفون تماماً، ولذلك نحن مستمرون واختلافاتنا تلك التي صنعت الكثير من شخصياتنا ومتعنا وآرائنا وحتى خلافاتنا. إلا أن البعض يقع في عمق التخبط، فيضل الطريق، أو لا يعود لديه ما يعطيه!

تقول الكاتبة والناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ «حين ينتابنا الخوف، نطلق الرصاص، لكن حين ينتابنا الحنين نطلق الصور»، والحق فإن اللجوء إلى العزلة والبعد هو نوع من آليات الدفاع الضعيفة عن النفس، فنحن حين نخاف نصبح شرسين جداً، أو جبناء جداً، والسلوك الإنساني في مواجهة العاطفة يتبدّل وفق طبيعتها:

فعندما يكون الشعور خوفاً، نتصرّف بعنف وارتباك ودفاعية، كأنّنا نطلق النار (أو الهجران والعداوة) لصدّ ما يهدّدنا. أمّا عندما يكون الشعور حنيناً، فإننا نحاول الاحتفاظ به وتجميده والإمساك باللحظة قبل أن تتلاشى فنلتقط الصور!

إن الصورة هنا في عبارة سونتاغ تمثّل رغبة الإنسان في الحفاظ على ما يحبّه، أو استعادة ما فقده، وهي محاولة للسيطرة على الزمن والأصدقاء كذلك! فكم عدد الصور التي تجمع ذاك الشخص الذي قرر أن يهجر أصحابه لأنه تغير وأصبح مختلفاً، كم كانت اللحظات حلوة وعابقة بالحنين إذا نظر إليها اليوم، لكنه تخلى عمن فيها، عمن شاركوه تلك اللحظة! لماذا؟ وهل يمكننا أن نطلق الصور والرصاص معاً؟ أن نحتفظ ونمزق معاً؟