يملك الكتاب الحقيقيون وأصحاب الرؤية الناضجة التي يرون ويديرون حياتهم من خلالها أسباباً عديدة تدفعهم للكتابة، سواء كتابة مقالات الرأي الناقدة، أو الكتابة الإبداعية السردية «القصة والمسرح والرواية».
وأسباب الكتابة هذه بقدر تنوعها وتفاوت أهميتها إلا أنها تنتهي جميعها عند جذر واحد، يمكن تلخيصه في أن الكاتب الحقيقي المدرك لأهمية ما يقوم به يكتب كي يكون صوتاً مسموعاً لنفسه وللآخرين، ويكتب كي يعيد تشكيل العالم بشكل أفضل، ويكتب كي يهز اليقينيات الباردة، ويكتب ليشير إلى الخطأ والتشوه والاعوجاج.
سئل كاتب ذات مرة: «طالما أنك رأيت كل تلك الأمور الفاسدة في المجتمع فلماذا لم تقدم الحلول؟»، فقال هذا ليس دوري! مهمتي تنتهي بوضع إصبعي على الخطأ، ما عداه لا يعتبر من اختصاصاتي.
وقد كان كلامه دقيقاً جداً، فالكاتب مرآة كاشفة، عدسة مكبرة، مسدس سريع الطلقات، لكنه ليس خبيراً استراتيجياً في وضع الحلول والخطط، أو طبيباً لوصف العلاج، يكفي أنه رفض دور كاتم الصوت كما يفعل الجميع، وخاطر برفع صوته!
وهناك سبب آخر للكتابة لا علاقة له بالألم والخطأ والفشل، بل له علاقة بالجمال الذي يمكنه أن يستفز الكاتب كذلك. لقد وجدت نفسي وبطريق الصدفة في قلب الريف الأوروبي منذ سنوات طويلة، كان الوقت ليلاً فتعذر عليّ رؤية ما حولي، وحين صحوت فجراً سارعت لفتح الستائر.
فإذا بي وجهاً لوجه أمام جمال لا قبل للقلب على احتماله، ذلك الجمال الذي تشعر أنك لا تستطيع التنفس في حضرته، سقطت دموعي يومها، ووحدها الكتابة أسعفتني لأستوعب ما رأيت وكيف أحسست!
إن ذلك المنظر البديع، وذاك الشخص العابر في حقل أخضر بلا نهاية، ومرأى القمر وهو يطل من خلف الجبال مضيئاً وفريداً كأنك قادر على لمسه، الماء المنهمر من على شاهق.. إلخ.. لا نستطيع الإمساك به بغير الكتابة القادرة وحدها على إنقاذ الجمال واللحظات العظيمة من الفرار والتلاشي والغرق في النسيان.
ومثلما قال ماركيز: «نحن نكتب لنعيش مرتين»، مرة عندما نرى، ومرة حين نستعيد بالكتابة ما رأيناه.