لا تعبّر سلوكيات البعض الظاهرية في الحياة العامة، أو حتى مع أصدقائهم وزملائهم، عن طبيعة حياتهم، أو عن الحياة الحقيقية التي يحيونها، تلك الحياة التي يمارسونها خلف أبواب منازلهم، عندما يكونون بعيدين عن الأنظار والعيون المترصدة، فهناك ممن نراهم يضحكون ويجاملون أصدقاءهم في قاعات الأفراح وحلبات الرقص والأسواق، هم في الحقيقة أناس يعيش كل منهم معاناته بطريقته، أو يعيش مأساته التي ينطوي عليها قلبه وحيداً ومع سبق الإصرار، دون أي حاجة أو رغبة منه في أن يعلن أو يتحدث أو ينشر أو يجلب الانتباه لما يعانيه أمام الآخرين.

إن هذا النوع من الناس المتعففين عن طلب التعاطف والشفقة، عكس الأشخاص النرجسيين الذين يعملون كل ما في وسعهم ليكونوا مرئيين، ومحط اهتمام إجباري من قبل المحيطين بهم، ليحملوهم وزر معاناتهم وفشلهم ومشاكلهم وآلامهم، أما هؤلاء المتعففون، وهم كثر حولنا دون أن نشعر بهم، فيعانون كثيراً ولكن بصمت، كي يبدو كل واحد منهم شخصاً عادياً كبقية الناس بل ومبتسماً أيضاً، مثله مثل ذلك المعدم الذي لا يملك شيئاً، لكنك تحسبه غنياً من التعفف، فهو يملك بين جوانحه روحاً متعففة وقلباً نبيلاً؛ لذلك يأبى أن يمد يده طلباً للمساعدة، فيصبر على ألم الحاجة، حتى لا يبعثر كرامته أمام أنظار الآخرين، كي لا ينكسر مرتين!

إن التعفف والسمو لا يقتصران على طلب المال فقط!

وأجد أن من أعمق ما قاله الكاتب ألبير كامو في ذلك: «لا أحد يعلم أن بعض الناس يبذلون جهداً خارقاً ليبدو أنهم مجرّد أشخاص عاديين».

لم يكن كامو يقصد الفقراء والمضطهدين والمهمشين فقط، ولكن أولئك الذين اتّقد وعيهم واتّسع حتى ضاقت كل العبارات عن استيعاب واحتمال ما بهم، وحتى ضاقت بهم الحياة من فرط ما يرون.

يجتهدون ويجاهدون بصمت مثابر كي يعيشوا عوالمهم وحيواتهم مع الآخرين، حتى وإن كان كل ما حولهم لا يشبههم ولا يمتّ لهم بصلة، فقط كي يظهروا طبيعيين في واقع فقد طبيعته، وتلك في الحقيقة معاناة تهون دونها كل معاناة!