تصور بعض الكتابات السطحية أو المتسرعة، ربما، هؤلاء الذين يتقدم بهم العمر، بكثير من السخرية وقد يرسمون للرجل الكبير وللسيدة المتقدمة في السن صورة أو تحولهما إلى موضوع للإضحاك والتطاول، خاصة بعد أن يتقاعدا من عملهما ولا يملكا تلك السطوة والتحكم فيما حولهما كما السابق!
والحقيقة فإن التقدم في العمر ليس مدعاة للسخرية أو مبرراً لأن يشعر المحيطون بالعبء أو الثقل من هؤلاء، هذه كلها مشاعر وسلوكيات تتنافى مع مكانة هؤلاء وما يتمتعون به من مخزون ضخم من التجارب والخبرات والمعرفة بأمور الدنيا والحياة والعلاقات والتوجهات السلوكية كافة.
تسمى سنوات التقدم في العمر بسنوات الحكمة، وهناك من يطلق عليها مصطلح «المرحلة الملكية» من عمر الإنسان، بلا شك أن هناك الكثير من المتاعب والثقل واعتلالات الجسد بعد رحلة طويلة من العلاقات والمعارك والتحديات، إلا أن تلك هي طبيعة الأشياء، الفتوة في مقابل التهور وانعدام الخبرة، والشيخوخة في مقابل البصيرة والحكمة، الحياة ذات الوقع المتسارع تمنحنا البهجة والشغف، والحياة في ظل البطء تجعلنا نرى الحقيقة بوضوح، كطائر كان يقاتل جيشاً من الجوارح لأجل فريسة كان يراها بحجم العالم، وحين يحلق عالياً جداً يعرف كم كانت تلك الفريسة صغيرة بل ومتناهية الصغر، وربما كان الأجدر لو أنه تركها وبحث عن شيء آخر، لكنها أحكام العمر واللحظة والمنظور الذي نطل من خلاله على الأشياء!
ما الذي يمنحنا إياه العمر؟ الحكمة أولاً، والنظر من أعلى لكل شيء: للعلاقات، للمال، للأصدقاء، للأحقاد والضغائن والغيرة، للمناصب والشهرة، للأخوة والعائلة.. يمنحنا العمر قدرة تفاجئنا بالطريقة التي نرى بها كل هذه الأمور ونقيمها، فكثير من هذه الأمور لا يعود لها ذلك الألق والضرورة والقيمة، حتى أنك تعترف بأن معارك عديدة ما كان عليك أن تخوضها ابتداء، وتلك التي خسرتها، ما كان عليك أن تطوي قلبك على كل ذلك القهر لأجلها، تمنحك الحكمة اتساعاً هائلاً في الرؤية، حتى تضيق عليها كل العبارات، وتمنحك بصيرة فترى ما كان خافياً، وتمنحك لذة في حياة التمهل والبطء!