عدت للتو من سفر قصير لم يستغرق أكثر من أسبوع، عدت دون أن تحمل ذاكرتي شيئاً يذكر من البلاد التي كنت فيها، لا مواقف، لا مشاهد مؤثرة، لا حكايات ولا وجوه أشخاص من تلك التي تحفر في داخلك طريقاً إلى مكان ما، لا أدري لماذا كانت ذاكرتي متوقفة أو ممتنعة عن الاحتفاظ بشيء ما مما تنزلق عليه عيناي! كنت أمر على كل شيء مرور الكرام كما نقول، لا معجبة ولا منبهرة ولا معترضة، أمر هكذا كما يمر ماء جدول وسط حقل بهدوء وسلاسة لا أكثر!

وكنت أتساءل لماذا لم ترق لي المدينة هذه المرة؟ إنها نفس المدينة التي لطالما وصفتها بأنها مدينة سعيدة وذات طاقة إيجابية عظيمة تنعكس على زائرها فيصبح خفيفاً كطائر أو كفراشة محلقة؟ قلت لأسكت هذا التساؤل: ربما لأنني أزورها للمرة السادسة أو السابعة، وربما لأنني أذهب إليها هذه المرة لأمر لا علاقة له بالتسوق والتنزه، ولكن لمهمة محددة تقتضي التزاماً روتينياً محدداً، ربما لأن زمناً طويلاً مر منذ آخر مرة زرتها فيه، تغيرت خلالها أشياء وأشياء، أعمارنا وأمزجتنا ونظرتنا لكل شيء.

عندما دخلت غرفتي للوهلة الأولى، شعرت بأن الغرفة معبأة برائحة بخور معينة، وعندما غسلت يدي فاحت من قارورة الصابون رائحة محببة كأنني أعرفها أو استخدمتها ذات يوم، أو أنها تخص مكاناً أو أحداً بعينه! ثم أخذ عقلي، مثل محركات البحث الذكية، يدور في كل الاتجاهات والزوايا بحثاً عن جذور تلك الروائح، قال لي ذهني بأنني شممت هذا البخور في إحدى كنائس فلورنسا الإيطالية، تلك الكنيسة الصغيرة التي تقع بجوار منزل الشاعر الإيطالي دانتي صاحب الكوميديا الإلهية، وأما تلك الرائحة التي عبقت من القارورة، فقد أعادت لي رائحة فندق سكنته في القاهرة الحبيبة!

عندما دخل أخي إلى غرفتي بادرته مباشرة كأنني أريد أن أتأكد من صحة ذاكرتي: هل تشم رائحة بخور الكنائس؟ نظر إلي متعجباً وقال: هذه بلاد ليس فيها كنائس، ثم إنني لم أشم ما تقولين، البخور في رأسك عائشة! هل كان البخور والفندق وفلورنسا والقاهرة في رأسي؟ نعم هو كذلك!