مؤخراً، أجريت بعض التعديلات على منزلي، ومعها نقلت مكتبتي الخاصة من مكانها الكبير الذي كانت تحتله، فكان أول إحساس انتابني هو أن المكان أصبح فارغاً، أنيقاً أكثر مما كان، لكنه يثير شيئاً من الوحشة وكثيراً من الفراغ في الداخل، تماماً كما تشعر حين يزال منزل كان في الجوار وقد اعتدت على وجوده، ثم ذات صباح تفتح عينيك لتجده وقد أزيل تماماً!
شعور الوحشة والفراغ هذا غالباً ما ينبع من مكانة البيت أو المعاني التي ارتبطت به: الذكريات والحكايات والمعاني المضمرة، فليس المقصود شكل البيت أو فخامته أو طرازه المعماري، ولكن كل المعاني التي تولدت منه وأصبحت جزءاً من حياتنا وتاريخ الحي، الصداقات مع سكانه، المناسبات التي شهدناها فيه، المناسبات والعلاقات والتفاصيل الحلوة: الأطفال، الهدايا، أطعمة وأطباق المناسبات (الأعياد ورمضان، ومنتصف شعبان..)..
هناك كثيرون يرون أن المعنى الحقيقي للحياة لا يكمن في الزائل والمادي والبراق والسريع والعبثي، ولكن في المعنى الثابت والحقيقي الذي يمنح الغنى والامتلاء والقيمة، مثل العلاقات الإنسانية والكتب والأصدقاء والسفر، هؤلاء يرون في المكتبة أمراً عظيماً لا بد من الحرص على وجوده، فإذا اختفى أصيبت الحياة حولهم بالفراغ أو النقص، ولذلك يكرهون البيوت التي تخلو من مكتبة حقيقية، تعطي المكان وأهله شعوراً بالثقة والمعنى، لأنهم يؤمنون أن الكتب تاريخ إنساني عميق وشاسع ومتغلغل في تاريخ وذاكرة البشرية، ولذلك فهي ليست حالة طقوسية أو استعراضية، إنها إحدى أدوات صناعة التاريخ الإنساني بدون مبالغة!
إن الإنسان الذي يقرأ وينتهي من قراءة كتاب، لا يعود الشخص نفسه الذي كان قبل القراءة، ولذلك فإن المكتبة قيمة وجودية مضافة للحياة وللبيت، وليست للزينة مطلقاً أو للتباهي أو لتصبح خلفية للصور أو لنقدم أنفسنا من خلالها كذوات منتفخة ثقافياً، المكتبة في البيت فلسفة وجود، إجابة عن سؤال قلق، صديق حلو المعشر، يوم آخر نطل من خلاله على الدنيا، فنجان قهوة صنع على مهل، إنها تشبه إحساس العودة للبيت بعد سفر طويل، المكتبة ببساطة فكرة لا متناهية لتعميق الوجود.