باكراً جداً، اتخذت مكاني في حديقة البيت، وصرت أنصت إلى تظاهرة الطبيعة! ضجيج حلو بكل ما يحمله التعبير من تناقض وجمال، أعداد الطيور وهي تغادر الشجرة الكبيرة وسط الفناء تذكرك بجمع من البشر يندفعون من أحشاء أحد القطارات مسرعين للخارج، أصوات وهمهمات وصراخ وتدافع، ثم يصمت كل شيء كأن لم يكن، وينفجر الماء من أرجاء المكان مبللاً شجيرات الفل وعشب الحديقة وسيقان الأشجار الكبيرة، وما إن تشرق الشمس حتى تتلألأ قطرات الماء على نهايات رؤوس الأعشاب الخضراء فتشعر أنك جزء من تظاهرة رائعة وفلسفة وجود عظيمة.
انتبهت إلى أنني أجلس في مواجهة باب البيت، تأملته حتى غرقت في تفاصيله: لونه، نقوشه المحفورة بإتقان، بعض الأماكن التي تقشر طلاؤها بفعل سطوة الزمن، ثم لا أدري كيف ذهب بي التفكير فصرت أعد آلاف الأشخاص والأسماء التي عبرته إلى الداخل وخرجت منه، والمناسبات والأعراس والزيارات والأعياد والأسفار وكل النهارات التي كان هذا الباب طريقنا إليها، ثم تمثلت أمامي بوابات المنازل التي سكنتها منذ عهد الطفولة حتى اليوم، رحلة وتاريخ، تغيرات وتبدلات لا تحصى في مزاج المدينة والناس وشكل الأبواب ووظيفتها وفلسفتها ودلالتها.
وتذكرت رواية بديعة غريبة بعض الشيء بعنوان «الباب»، قرأتها منذ سنوات لكاتبة هنغارية اسمها ماجدا سابوا، وكلاهما؛ الرواية والكاتبة، لا يحظيان بالشهرة المستحقة، فالرواية من أجمل ما يمكن لقارئ أن يعثر عليها بالصدفة، والكاتبة تكتب بلغة وإحساس قلما تجدهما في روايات هذا الزمان.
تتناول الرواية العلاقة التي تتعمق بشكل سلس وتلقائي بين الكاتبة وخادمتها العجوز (أميرنس) غريبة الأطوار، والمعبأة بالحكايات والأسرار (كباب منزلها تماماً)، تلك العجوز التي تحجز نفسها في غرفة خلف باب تحول إلى أحد أسرارها حتى خلقت عقول وتصورات الناس في الحي حكايات لا أساس لها لذلك الباب وما يخفيه، ولتلك العجوز وما يمكن أن تكون.
فماذا كان خلف الباب؟ لا شيء مما ظن أولئك الناس، لا شيء سوى بؤس، وذاكرة غارقة في الأيام والماضي.
وجاء من ذاكرة حاضرة صوت فيروز يذكر بأن الأرض كلها بيوت مزينة بالأبواب!
في باب غرقان بريحة الياسمين
في باب مشتاق وفي باب حزين