إن أهم ما عرف به الكاتب الأمريكي الشهير «هنري ميلر» انتقاده للمجتمع الأمريكي الرأسمالي، ومهاجمته الصريحة والجريئة للقيم المادية والاستهلاكية، ولهذا فضّل العيش على الهامش كرحّالة وكاتب منفي، فقضى سنوات طويلة في باريس، حيث تفتحت تجربته الأدبية هناك، خالطاً في كتابتها بين التجربة الذاتية والخيال، لم يكتب بطريقة تقليدية كما كتّاب عصره، ولكنه كذلك تجاوز سقف الحرية والجرأة بمراحل!

ترك الكثير من الميراث الأدبي، الذي أنتجه خلال حياة امتدّت لما يقارب التسعة عقود، وهنا واحدة من أعظم مقولاته التي تلخص نزعته الفلسفية الوجودية ومواجهته للحقائق بكل قوة.

فقد كان ميلر مهموماً بالحرية، وإشكالات الفرد، ومعنى الحياة، والتحرر من القيود الاجتماعية، ما لا يحبه الكثيرون في ميلر ميله المبالغ نحو الفوضوية والانغماس في الملذات، وما يؤيده كثر كذلك تمرده على ما يسمى بالحلم الأمريكي المتدثر بأردية الرأسمالية الجشعة.

يقول هنري ميلر: «إن بلغت الثمانين ولم تكن مقعداً أو عاجزاً، إن كنت تملك صحتك وتستمتع بنزهة سير جيدة، ووجبة شهية، إن كنت تستطيع النوم دون تناول حبة كل ليلة، إن كانت الطيور والأزهار والجبال والبحر ما زالت تلهمك.

فأنت من أكثر الأفراد حظاً، وعليك أن تجثو على ركبتيك كل صباح ومساء لتشكر الله على حفظه ورعايته لك. أما إن كنت شاباً في عمرك ومرهقاً في روحك وعلى وشك التحول إلى إنسان آلي قد يكون من النافع لك أن تقول لرئيسك (بصوت هامس طبعاً) سحقاً لك أنت لا تملكني.

أما إن كنت تستطيع الوقوع في الحب مرة بعد الأخرى، وإن كنت تستطيع أن تغفر كما تستطيع أن تنسى، وتستطيع منع نفسك من التحول إلى رجل فظّ عابس ساخر، فلقد تمكنت من قطع نصف الطريق. الأشياء الصغيرة هي ما تهم فعلاً لا الشهرة ولا النجاح ولا المال، المساحة ضيقة جداً في الأعلى بينما هنالك الكثير من أمثالك في الأسفل. ولا أحد سينافسك على شيء».

إنها حكمة العمر، خلاصة الثمانين، ومعنى أن لا تكون نسخة طبق الأصل عن أقرانك وعن غيرك، وبقدر الحكمة المضمرة في المقولة، فهناك باعتقادي الكثير، الكثير من التمرد الذي لا يقدر عليه إلا من يقدر الحرية وحريته.