من أجمل ما قرأت عن المدن العتيقة والشوارع العظيمة التي تخترق بعض المدن المتأسسة على تاريخ موازٍ لتاريخ المدينة نفسها، أو منبثق منها، حتى إنه يمكن لشارع عظيم أن يحمل مدينة بأكملها عبر أرصفته ومقاهيه والحوانيت المتناثرة عليه والمتاحف والقصور والأشجار والميادين والنصب المقامة على جوانبه، أو في مكان ما منه.
هذه الشوارع ليست مجرد جزء من البناءات التي تؤثث المدينة، ليست مجرد أسفلت وأحجار وأشجار على الجانبين، تكمن عظمة هذه الشوارع في تلك الحالة التاريخية التي تكرست في لحظات زمنية معينة عبر أسماء كبيرة وفارقة: أسماء الكتّاب والشعراء والمناضلين و.... هؤلاء الذين تركوا أسماءهم وجلساتهم على الكثير من زوايا المقاهي وجلسات المطاعم... ألا نتذكر جميعاً جلسات نجيب محفوظ في مقهى ريش مثلاً في شارع طلعت حرب في القاهرة.
ومقهى الفيشاوي الذي يعتبر من أقدم المقاهي في القاهرة، وشهد ولادة روائع الأدب والفن العربي، وكان من الأماكن المفضلة لنجيب محفوظ، وإحسان عبدالقدوس، ويوسف إدريس. وفي باريس يعتبر مقهى ليه دو ماغنوس من الأماكن التي ارتبطت بثلاثة من رواد الأدب والفكر، وهم سيمون دي بوفوار، وجان جيرار، وجان بول سارتر.
إن أفضل الشوارع هي تلك التي يمكن أن تتذكرها بما تتركه فيك من انطباعات إيجابية تستمر بقوة. فحين تفكر في مدينة تمتلك واحداً من هذه الشوارع، فستتملكك الرغبة أن تكون هناك، فمثل هذه الشوارع تخلد ذكراها. إن لها سحراً عظيماً. ونحن ننجذب إلى هذه الشوارع، لا لأننا نودّ الذهاب إليها، بل لأننا نودّ أن نكون دوماً فيها. إن أفضلها هو أكثرها نفعاً، كما أن أكثرها إثارة للسرور وإمتاعاً وانفتاحاً أمام الجميع. أمام من تجعلهم وأمام من تعرفهم. إن مثل هذه الشوارع هي رمز للمجتمعات التي تضمها، وهي تاريخ لهذه المجتمعات. إنها حقاً ذاكرة قومية.
هكذا وصف الكاتب آلان ب. جاكوب سحر وأثر تلك الشوارع العظيمة، وهكذا ستبقى هذه الشوارع المكان الأكثر سحراً، والتي يسعى إليها الجميع ليسجلوا أنهم كانوا ذات يوم في شارع الشانزليزيه، أو شارع المعز، والرامبلا في برشلونة، وشارع برودواي في مانهاتن.