كان الكثيرون في العالم العربي قبل ثورة مواقع التواصل يحلمون بتوسيع هوامش التعبير عن الرأي والحصول على إمكانيات أكبر لحريات الصحافة والأفكار، ما حدث أن الثورة التكنولوجية ووسائل التواصل حققت هذا الحلم، لكن أغلب الذين سيطروا على مواقع التواصل ووضعوا أيديهم وأسماءهم عليها هم أولئك الذين حولوا هذا المنجز إلى الكثير من التفاهات والسخافات والفساد والابتذال!

هذه ظاهرة حقيقية لاحظها علماء ومفكرون وإعلاميون، وقاموا بدراستها وتفنيدها (كتاب نظام التفاهة مثلاً)، لكنها لا تعني أبداً أنه لم تظهر صفحات وشخصيات وبرامج استفادت من هامش الحرية أولاً، ومن اتساع القاعدة الجماهيرية التي توجد باستمرار على هذه المنصات، لكن الغث للأسف والزائف والتافه هو ما يجذب الناس أكثر وبأعداد كبيرة جداً، والدليل أن شخصية منحرفة، رجلاً كان أو امرأة، تقدم محتوى في منتهى الإفساد والتفاهة والإخلال بالذائقة والقيم، وتحظى بمتابعات جماهيرية مليونية، بينما من يقدم محتوى مفيداً وراقياً وعميقاً ومثقفاً لا يتابعه سوى العشرات، وإن زادوا كانوا بضع مئات، والسؤال: لماذا؟ وعلى من يقع اللوم أو الخطأ أو الخلل؟

ولهذه الظاهرة أسبابها العلمية والنفسية والأخلاقية والاجتماعية، ولعل أول الأسباب يرجع إلى أن النفس البشرية تنجذب أكثر وأسرع للمثير والفوري، ولكل ما يثير الحواس بسرعة، دون جهد ذهني كبير، ثم إن المحتوى التافه أو الفاضح أو المثير للجدل يعتمد على الصدمة أو الفضول أو الضحك السريع، وهذه عناصر تلتقط انتباه الدماغ فوراً، بينما المحتوى العميق يحتاج إلى تركيز وتفكير، وهذا يتطلب طاقة ذهنية وجهداً لا يرغب الكثيرون في بذله، خصوصاً في عصر اتخذ السرعة شعاراً وسمة وتنافسية.

نأتي بعد ذلك لموضوع الثقافة السائدة في المجتمع وضعف التعليم القائم على النقد، وهذا سائد في الكثير من المجتمعات (العربية وغير العربية)، هناك ضعف في مهارات التفكير النقدي الحر.

المدرسة لا تُعلّم التمييز بين الغث والسمين، والإعلام لا يعزز القدرة على تحليل الرسائل الإعلامية أو مقاومة الإثارة السطحية.

النتيجة أن المتلقي يستهلك المحتوى التافه كما هو من دون فرز أو وعي.