الفن جزء رئيس من حياة اليوم، إنه واحد من تفاصيل يومياتنا، وهو ليس مجرد وسيلة للترفيه وتزجية الوقت، كما يريد البعض أن ينشر ويؤكد، حتى لا يكون للفن ذلك الدور المهم في الارتقاء بذائقة الإنسان وتهذيب حواسه.
في الحقيقة يعتبر الفن بجميع أشكاله الراقية من أكثر الظواهر الإنسانية عمقاً وتأثيراً في حياة الفرد والمجتمع، فمن خلال الفن يستطيع الإنسان أن يخلق عوالم بديلة، أن يحلم، أن يتخيل واقعاً أجمل، وأن ينقل هذا الخيال للآخرين. الغناء لا يُخبرك فقط بما هو، بل بما يُمكن أن يكون.
وأنا هنا لا أتحدث عن الفن الهابط، ولا أنواع الفنون الحسية التي تلعب على المثيرات وإنهاض الغرائز، ولا تلك التي تروج للفضائحية والابتذال، فهذا ليس فناً، إنه امتهان للفن وللفنان!
منذ طفولتنا تربينا على أيدي آباء ارتبطوا بفنانين أصحاب هدف وقضية وثقافة، وكان لهم دور عظيم في تاريخ شعوبهم، أما جيلنا فارتبط بفنانين شكلوا ذائقتنا منذ الطفولة، كان أبي يستمع لأم كلثوم كل يوم، لكنني في صغري لم أحتمل كما لم أفهم أم كلثوم الصوت والظاهرة، كانت فيروز أقرب لنا، أحببنا صوتها وكل المعاني النبيلة التي غنت لها.
قرأت مرة أن فيروز أجرت مقابلة سنة 1999، سألها المذيع خلالها: «ماذا تسمعين صباحاً؟».
فأجابت ببساطتها الأسطورية:
«أسمع صوتي من شبابيك العالم» تقصد من شبابيك الناس المحيطة بها!
وذلك لم يكن مجرد جواب، إنه تقرير حالة عامة، رسم لملامح مزاج شعبي في بلدان عديدة، إنه إعلان غير مباشر أن فيروز أصبحت هي الصبح، هي النغمة الأولى التي تستفيق المدن على صوتها، الصوت التي يغرد صحبة العصافير وأوراق الشجر وجداول الماء وخطوات البشر على طرقات الرزق والحياة في البكور!
فيروز، ولسنوات طويلة من أعمارنا، كانت هي الرفيقة التي تسبق فنجان القهوة، والماء النقي الذي نحضره بهدوء لنصنع فنجان قهوتنا بهدوء ودون عجل. تتسلّل فيروز إلينا كل صباح من كل المحطات قبل بزوغ الشمس. أما هي فلا تسمع العالم، كان العالم هو الذي يسمعها.