مثلما تمكن الكاتب الفرنسي الشهير سانت أكسوبري أن يربط الطائرة بالقلم والتحليق بالتأمل، وأنتج لنا رائعته «الأمير الصغير» وغيرها من الروايات، فإن قائد الجناح الجوي هارولد ألسوب سجل «ذاكرة الزمن» في 150 صورة تستكشف العصر الذي عاشته منطقة الخليج العربي في ثلاثينات القرن الماضي.
صور طائرات جاثمة في محطة الشارقة وجانب الاستراحة وبعض الصور الجوية لساحل رأس الخيمة وأهرامات مصر .
وكذلك صور لبعض المناطق التي مّر بها أو حط بها كسلطنة عُمان والبحرين وفلسطين والمناطق الكردية في العراق في عام 1933. (الصور تُعرض حالياً في دار التراث في منطقة البستكية بإشراف مؤسسة السركال الثقافية. وما يُعزز هذا المعرض ذلك الكتاب المهم لصاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي «محطة الشارقة الجوية بين الشرق والغرب»).
الأهم في هذا الحدث إن مفاتيح تاريخنا ما زالت بيد الغرب، لذا فلا بد من العودة إليه مهما تكابرنا، لأنه كان الأسبق وعياً منا في العصر الحديث على تسجيل ذاكرتنا. يعود عمر هذه الصور التي تمتعت بمشاهدتها إلى ثمانين عاماً قام الأب الطيار هارولد ألسوب بتوريثها لأبنه جون باتريك ألسوب الذي التقينا به في المعرض وسرد لنا حكاية هذه الصور. أحد الزوار الإماراتيين إلى كندا، في فانكوفر التي يقطنها ابن المصور الطيار هارولد ألسوب سمع بوجود هذه الصور، وقام بعملية بحث قادته إلى اكتشاف هذا الكنز.
ويخبرنا الابن بأنه ورث هذه الصور عن أبيه كما جاء في وصيته ولكنه أودعها في المخزن طيلة عشرين عاماً ولم يطلع عليها ولم يعرف عنها شيئاً سوى أنها جزء من ذكريات أبيه عن الشرق الأوسط إلى أن جاء ابنه، أي حفيد الطيار المصور، ليكشف لنا عن كهف علي بابا.
وهنا لا بد من الإشادة بكل من رئيس مؤسسة السركال الثقافية أحمد بن عيسى السركال ومدير الجمعية الإماراتية لهواة التصوير سعيد الشامسي في الحيازة على عرض هذه الصور في دبي. وجهودهما التالية في إصدارها في كتاب قريباً.
في الواقع، لم أقرأ كثيراً عن هويات الطيارين العرب لأننا اعتدنا أن نتمسك باختصاصاتنا الضيقة. إن هذه الصور المعروضة حالياً عن منطقة الخليج العربي في ثلاثينات القرن الماضي تختزل كتباً عن تلك المرحلة، فهي تسجل ذاكرة بشر كانوا يكافحون من أجل حياة أفضل.
وتأتي أهمية هذه الصور أنها لم تُلتقط بنيّة استعمارية أو لأغراض سياسية أو اقتصادية عابرة بل تعبّر عن الشغف بالمنطقة وبفن التصوير. فقد كانت متعة هذا الطيار المصور أن يغادر طائرته ليتجول في المنطقة حاملاً كاميرته اليدوية الصغيرة، ليخلّد لنا اللحظات التي عاشها أسلافنا وأجدادنا وسط شظف العيش والأمل بغد مشرق. والطيار المصور هارولد ألسوب الذي رحل في عام 1991 عن عمر يناهز 82 عاماً لم ينتهز الفرصة للمتاجرة بهذه الصور بل أهداها لابنه الذي ركنها جانباً إلى أن اكتشفها حفيده.
سؤال تحيلنا إليه هذه الصور: كم من المخطوطات العربية الثمينة من كنوز تراثنا العربي والإسلامي لا تزال مركونة كجثث محنّطة في مكتبات الغرب؟ نحن ننفق أموالاً طائلة على غير ذواتنا الحقيقية، وعلى غير ما كنا نمتلكه من تراث، لأننا ببساطة لا ننظر إلى هذا التراث كجزء من ذواتنا وبالتالي يلقى الإهمال والتجاهل. يمكن أن نشّيد متحفاً ضخماً من الصور لا أن نعيد تقديم متاحف الآخرين. وصورنا موجودة في حوزة الآخرين، يكفي أن نبحث عنها لنجدها كما فعلنا مع المصور الطيار هارولد ألسب الذي أهدى لنا هذه الصور، ونحن له ممتنون.. وكذلك لابنه وحفيده لأنهم أصبحوا جزءاً من ذاكرتنا دون أن يدركوا ذلك.