ليس سوى الغضب ابناً شرعياً لاحتقار الناس وإجهاض طموحاتهم وآمالهم.. ليس سواه حين تطفأ المصابيح وتموت الأحلام.. ليس سواه حين يصبح التزييف صوتاً واحداً فيما تخمد كل الأصوات الأخرى.. ليس سواه حينما يصبح المزيف فارساً وحيداً في الميدان.. هو الذي يختار الخيول ويعد المضمار ويحدد موعد السباق.. ليس سواه حينما يتم إخراج الجياد الأصيلة كلها من الملعب لتحتل المشهد جياد كرتونية لا تصلح إلا لحياة طفولية بريئة.

صعب أن تحول ساحة الحياة إلى شاشة مسطحة لا علاقة لها بهموم الواقع وتحدياته، ثم تطلب من الناس أن يدخلوا معك في اللعبة. قد يقبل الناس عملا مسرحيا حيا يكون الشر موضوعه الوحيد، ومع ذلك يترك المخرج صوتا للضمير، شخص شخصان عشرة.. ان لم يكن، يقوم الكومبارس بدور المعبر عن الجموع الصامتة المغلوبة على أمرها، لكن ان يكون بطل واحد وخشبة لم يراع في تصميمها مكان للحائط الرابع ولو على سبيل المشاهدة وإبداء الاستحسان أو الاستهجان، فذلك نوع من الجنون يقود الناس إلى عزل ذلك البطل وإيداعه مكاناً لائقاً في مستشفى الأمراض العقلية.

كثيرا ما شاهد المرء أعمالاً سينمائية درامية عظيمة.. ففي أحد مشاهد العطر لزوسكند يسود الإيحاء ويتحول الناس إلى عشاق، وفي راسبوتين تفعل الكاريزما الشخصية المعجزات.. وفي أعمال كثيرة يتحرك الناس بمنطق القطيع فيرجمون البريء ويرفعون الجناة فوق الأعناق.. في كل الأحوال تكون هناك حيل درامية وتكون الأعمال محبوكة بشكل منطقي يقنع المشاهد أو يستفز داخله التحدي.. اما أن يقدم مخرج على نسف المنطق نفسه في عمله.. ويقدم عمله ثم يطلب من الناس التجمع في الساحات للثناء على العمل والتصفيق له.. فذلك عين المحال.

الواقع ليس هو السينما.. فعلى الشاشة يمكن أن تستأجر جموعا لأداء مشهد معين.. فإذا انتهى التصوير ذهبوا إلى حال سبيلهم ليبحثوا عن مصدر رزق في مكان آخر، اما في الواقع فالناس يلتفون حول الحقيقة.. بكل بساطة لأنها تعبير عنهم.. وفي لحظة من اللحظات يمكن أن يموتوا في سبيلها، بينما لا يضحي احد بروحه من اجل نجاح عمل مصطنع اقرب إلى الخيال خاصة إذا كان صناع العمل مشبوهين أو متكسبين.

في أخريات أيامه كتب نجيب محفوظ مجموعة من ثلاث وعشرين قصة قصيرة جدا أسماها «أحلام فترة النقاهة».. الحلم الحادي عشر منها مفزع.. فحواه أن امرأة فارعة الطول، ريانة الجسد، تستلقي في ظل نخلة على شاطئ النيل، تكشف عن صدرها وتنادي الأطفال، فيتدافع نحوها أطفال لا يحصرهم العد.. يتزاحمون على ثدييها ويرضعون بشراهة غير معهودة، وكلما انتهت جماعة أقبلت أخرى.. وحين يبدو الأمر قد تجاوز كل الحدود وخرج عن كل تنظيم وأصبح يقتضي الاستغاثة والتنبيه وجد الحالم الناس يغطون في النوم على شاطئ النيل، وكلما حاول الاستغاثة بهم يجد أن صوته لا يخرج.. ولم يترك الأطفال المرأة، فلما أصبحت جلدا على عظم ويئسوا من أن يمنحهم ثدياها مزيدا من اللبن راحوا ينهشون اللحم حتى تحولت بينهم لهيكل عظمي، ثم راحوا يتقاتلون بضراوة فيما بينهم.

هل كان نجيب محفوظ يقرأ الغيب.. هل كان يعلم ما يتم بعد سنوات قلائل في المكان نفسه؟.

ثمة إرهاصات أن شيئاً ما مجهولاً يحمله الغد القريب.. فالناس استيقظوا دون استغاثة من أحد.. لم يقبلوا نتائج السباق الكرتوني الذي جرى.. بل تجمعوا بعشرات الآلاف حول الجياد الحقيقية يطالبونها بنزول الساحة وتجاوز الحائط الواهن الذي يفصل الشاشة عن الناس.. بل وكسر ماكينة العرض نفسها.