تأملت كثيراً في إجابة سؤال «لماذا تأتي التغييرات السياسية والاجتماعية في أغلب الأحيان بالأفضل؟» أو ليست المجتمعات قادرة على أن تصحح ذاتها دون تغييرات ضخمة أو ثورات؟ أليس من المفترض أن سلم الصعود الاجتماعي سليم ومفتوح للجميع، فمن تؤهله مواهبه وقدراته يرتقي وينال الشهرة والاحترام ويتصدر المشهد في كل المجالات ومن تقصر به قدراته يبقى واحداً من عامة الناس كل على قدر ما يمكن أن يقدم لبلده؟

في الغرب قد تكون هذه الأفكار صحيحة والدلائل عليها تحدث كل يوم من باراك أوباما إلى سوزان بويل مروراً بآلاف العلماء والمثقفين والفنانين والاقتصاديين والكتاب..

وربما في هذا وحده يكمن سر تجدد المجتمعات الغربية وتقدمها، فلا شيء دائم، بل ينخرط الجميع في سباق محموم للتميز وتجني الدول ثمار ذلك تقدماً ورفاهاً. أما عندنا نحن العرب فتبدو هذه الأفكار طوباوية لا علاقة لها بالواقع.. ولا يمكن ان تتحقق..

فكل شيء يسير برتابة ووفق نظام متكلس عفا عليه الزمن.. والنتيجة طموحات مقتولة وانسحاق أمام واقع شديد التردي.. ومشكلات اجتماعية وسياسية واقتصادية يموت من يناقشونها وتبقى هي عصية على الموت..

فما كان صالحاً للنقاش العام بدايات القرن العشرين هو نفسه الذي لا يزال موجود على الأجندة إلى يومنا هذا.. والأدهى والأمر أننا في تراجع؟ فالزعامات التي كنا ننتقدها بضراوة أصبحنا نتحسر على زمانها والفنانون والمثقفون الذين رحلوا تركوا فراغاً لم يجد من يسده والاقتصاديون العظماء الذين بنوا نهضة وأقاموا بنى لم يأت بعدهم من أكمل المسيرة.. بل من اجتهد في تخريب ما تم.. والعلماء الذين اعتزلوا الحياة ليصنعوا حياة أخرى باكتشافاتهم لم يعد لهم وجود.

والعن الأسئلة هو من يصلح للقيادة إذا اختفى من يتصدر لها الآن وكأن أرحام النساء قد أصبحت عقيمة لا تنجب والأوطان أصبحت عقيمة لا تربي ولا تؤهل جيلاً آخر يكمل المسيرة.. وكأن موت زعيم سيصادف يوم القيامة ومن ثم فلا ضرورة لتفكير فيما بعده.

ما يحدث في السياسة يترك ظله على كل مناحي الحياة فالشعراء الذين لم يكتبوا قصيدة منذ عشرين عاماً يظلون في الصدارة والفنانون الذين توقفوا عن العطاء تظل لهم الأبوية فلا يجرؤ أحد على إزاحتهم من المشهد، والوزراء ورؤساء الهيئات الذين فشلوا يظلون معززين مكرمين وكذلك رؤساء الجامعات وقادة العمل النقابي ووزراء الدفاع والأمن والمضاربين في البورصة.

وليس التغيير وحده هو المطرود من جنة مجتمعاتنا.. بل دعاة التغيير أيضاً.. جرب مثلاً أن تجوب المحطات الفضائية.. لن تجد أثراً مهما حاولت لمرسيل خليفة وزياد رحباني وجوليا بطرس والشيخ إمام وعدلي فخري ووجيه عزيز..

وربما تسمع من يطنبون في ذكر المفكرين الذين يجوب ذكرهم الساحات الإعلامية لكنك لن تجد أبداً أثراً ولا ذاكراً لجمال حمدان وحامد ربيع وعابد الجابري ومالك بن نبي ومحمود أمين العالم..

وحتى في الصحافة تجد أساطين الصحافة الحقيقيين (في مصر كنموذج) يجلسون في بيوتهم لا يجدون عملاً أو ترفعوا عن غرز أقدامهم في مستنقع الحاضر من محمد حسنين هيكل إلى شفيق أحمد علي بينما يتصدر المشهد صغار في القدر والموهبة.

هل مجتمعاتنا لا تنجب بحق ولا توجد بدائل؟ سؤال استنكاري موجع.. فالبدائل موجودة، والخيول لا يركبها فرسانها والشللية والعشائرية والطائفية هي الدرع الوحيدة التي تحمي أغلب النظم الحاكمة..

وغالبتها لا تعرف قدر المجتمعات التي تحكمها، ولذلك فإن الانتخابات مزورة.. وهناك يد عليا في أغلب بلداننا العربية تتحكم فيمن يبرز أو لا يبرز من ممارسة السياسة والأنشطة الاقتصادية وانتهاءً بمن يظهر على شاشات التلفزيون وصفحات الصحف.. ربما فيما سبق إجابة وافية على سؤال لماذا تهرب الكفاءات من الأوطان.. ولماذا أصبح حلم الهجرة أعز حلم يمكن أن يراود 90 في المئة من الموهوبين العرب في شتى مناحي الحياة.