ٍرغم عصف السلطات المصرية بصحيفة «الشعب» التي كانت تمثل معارضة جذرية للحكومة عام 2000 إلا أن العقد المنصرم تميز بحرية إعلامية غير مسبوقة عربياً. فقد نشأت وسائط إعلامية جديدة بفعل ثورة الاتصالات، ووجد الإعلام الحكومي نفسه يلهث خلف الإعلام المستقل (أو إعلام القطاع الخاص)، في ما توارى الإعلام الحزبي من تلقاء نفسه بعدما ضمر تأثير الأحزاب في الواقع السياسي المصري.
وجدت السلطات المصرية نفسها في مواجهة منتقدين جدد لأوضاعها، فتقبلت كثيراً، وضاق صدرها أحياناً، إلا أن عقلاً ما في السلطة؛ سواء كان جهازاً أو شخصاً ذا تأثير، أدرك أن منافع الحرية الإعلامية أكثر بكثير من مضارها، لكن دوائر أقل تأثيراً ظلت على حالة عدائها لأي صوت ناقد.
وهو ما منح انطباعاً في بعض الأحيان بأن هناك تجاذباً بين حرس قديم وحرس جديد، مع أن الأمر لم يكن له ظل من الحقيقة. وفي أحيان أخرى بأن هناك انقساما داخل السلطة، وهذه الجهات المعادية للانفتاح الإعلامي واسع النطاق كانت تحس كل يوم بأن سطوتها على الإعلاميين تتآكل يوماً بعد يوم.
أكبر منافع حرية الإعلام في مصر أنها نجحت في امتصاص التوترات وتنفيس حالات الغضب الاجتماعي، كما أنها فتحت أبواباً واسعة لتكسب قطاعاً كبيراً من النخبة، مما أسهم نسبياً في تطويع غير مرئي وغير محسوس بالطريقة نفسها التي اتبعتها وزارة الثقافة في عهد فاروق حسني، وبمعونة جابر عصفور، في جذب الأصوات المعارضة إلى داخل المؤسسة.
وجد الإعلام في هذا المناخ رواجاً ملحوظاً، وتدفقت عليه الأموال (غير معلومة المصدر أحياناً)، فوجدنا رواتب الفريق القيادي في الصحف ومقدمي برامج «التوك شو» تقفز بشكل سريع، وتقارب أو ربما تزيد على رواتب نظرائهم في أشهر الصحف والمحطات العالمية، وهذا بالتالي خلق طبقة جديدة من المتنفذين الذين حاولوا التقوقع على ذاتهم دفاعاً عن مصالحهم، كما بدأت تظهر طبقة جديدة من ملاك الوسائط الإعلامية ترتبط بخيط ما مع الخارج طمعاً في التحصن به، وتنسق خطواتها مع السلطة حفاظاً على مصالحها واستثماراتها.
ظل الحال كذلك بين شد وجذب، سلطة تحاول توظيف هذه الوسائل الإعلامية وتحجيم الأصوات المعارضة داخلها استخداماً لسياسة «العصا والجزرة»، وإعلاميون يحاولون توسيع الهامش المتاح لأقصى حد ممكن حماية لمصالحهم المادية، وسعياً لاجتذاب قدر أكبر من النجومية، إذ إن الشارع أصبح يسقط من حساباته المدافعين عن سياسات الحكومة لأنه يعيش واقعاً لا ينفع فيه التجميل.
هذا التجاذب مع السلطة كان عادياً، وكان أحياناً صحياً، لأنه يحمي من الانفلات، خاصة حين يتعلق الأمر بأمور حساسة مثل نقاط التماس بين المسلمين والأقباط، رغم أن كثيرين دفعوا ثمنه وحكم عليهم بالتهميش لأنهم لم يكونوا مع الحكومة بخياراتها السياسية والاقتصادية، ولا مع فريق رجال الأعمال الجدد الذين تملكوا الوسائط الإعلامية وسعوا لإكسابها جماهيرية عبر المهنية وعبر فتح النوافذ أمام جميع التيارات لتعبر عن آرائها وأفكارها. هناك مهنيون وآخرون ينتمون لأفكار جذرية لم يجدوا أنفسهم ضمن اللعبة التي صنعت رجالها.
لكن الأسابيع الأخيرة شهدت نوعاً من الغبار الذي ثار بدعوى المراجعة الإدارية أحياناً، وبدعوى أن هناك تجاوزات تم ارتكابها، كما دخل الساحة لاعب جديد غير تقليدي، ليس أجهزة الأمن، وليس المجلس الأعلى للصحافة، وإنما جهة جديدة تماما تتمثل في هيئة الاستثمار، وهي جهة تنظيمية لم تكن في الواجهة من قبل.
ولأن هناك نوعاً ما من أنواع المراجعة، ظهرت من جديد تشوهات ملكية الصحف والقنوات التلفزيونية، فرجل الأعمال الذي تتوزع استثماراته في قطاعات عدة ليست لديه صلابة كافية للصمود أمام الضغوط، ولذا بدأ التفكير في أشكال أخرى للملكية تستند إلى شريحة واسعة من المهتمين.