هذا ليس عنوان فيلم سينمائي أو حتى رواية بوليسية، بل اسم شبيه لبرنامج جديد على قناة «سي بي اس» الأميركية بعنوان «الرئيس المتخفي»، وهو برنامج حظي وما برح يحظى بنجاح كبير وواسع.
فكرة البرنامج هي إقناع رؤساء الشركات الكبرى ذات الميزانيات الضخمة، والتي يعمل فيها عدد كبير من الموظفين قد يصل إلى الآلاف أحياناً، بالتنكر والنزول بأنفسهم إلى الميدان والمعترك اليومي للعمل، كموظفين بسيطين ترافقهم كاميرات كأنها تسجل فيلماً وثائقياً حول فرص العمل في الولايات المتحدة أو لأي سبب آخر، ومن هنا تبدأ الأحداث بالتتابع، بمتعة وتشويق كبيرين ولهفة لمعرفة ما سيحدث لاحقا من مفاجآت وردود فعل صادمة، حين يكشف الرؤساء عن هويتهم الحقيقية، وهنا تكون المتعة الفعلية.
قبل أيام شاهدت إحدى حلقات البرنامج، والتي تنكر فيها مالك ورئيس سلسلة مطاعم شهيرة جدا في الولايات المتحدة وفي أكثر من 27 دولة في العالم. كانت الشركة تواجه انخفاضا في الأرباح، فعقد الرئيس اجتماعاً طارئا مع كبار موظفي ومستشاري الشركة وأخبرهم أنه سيتخفى! نعم سيتخفى ويذهب بنفسه للعمل في المطعم، ليكشف أسباب الهبوط في الأسعار.
وفعلا ودع الرئيس عائلته، وانطلق لإحدى الولايات التي يقع فيها أكبر فرع للمطعم، وقد غير اسمه وحلق شعره وارتدى نظارة طبية، وذهب إلى المطعم كموظف بسيط يغسل الأطباق ويرمي النفايات، وأحيانا يقدم الطعام.. وتتوالى الأحداث بعد ذلك، فيتعرف بنفسه على موظفين رائعين ومخلصين أحبوا عملهم بصدق، وآخرين يمارسون أخطاء وأفعالا فظيعة لا تغتفر.
رئيس الشركة لم يكشف العيوب فحسب، بل استشعر المسؤولية الملقاة على عاتقه، كما أنه قدر قيمة ما لديه حينما سمع وشاهد قصصا ومآسي يندى لها الجبين، كما أنه أشعر الموظفين بأنهم موضع اهتمام واحترام من رئيسهم، حينما باغتهم بالخبر وقدم لهم الشكر والتقدير، ولا شك أن أفضل الترقيات والفرص ستكون لمن يستحقها فقط.
الجدير بالذكر أنه كشف، وبالتالي استطاع أن يصلح الأخطاء والعيوب التي كانت تعاني منها سلسلة المطاعم، وعادت الأرباح للنمو والارتفاع مرة أخرى، ولكن فرحته هذه المرة كان لها طعم لذيذ، مختلف، وحقيقي.
تساءلت في نفسي لو ينفذ هذا البرنامج في العالم العربي، كم من المآسي والعيوب والكوارث سيكشف؟ وكم من الأزمات والمشكلات سيحل؟
في كل الوزارات والقطاعات والشركات، نحتاج رئيساً متخفيا يصلح وينقذ ما يمكن إنقاذه، ويشحذ همم الموظفين ويعرف حقا ما يحدث على الواقع، وكما يقول بيت الشعر القديم «إن كنت لا تدري فتلك مصيبة، وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم».
النزول إلى الميدان ومشاهدة الواقع عن قرب، بعين الرقيب الراغب في الإصلاح والتطوير واستشعار هموم الموظفين وشكاوى الزبائن ومحاولة حلها، ليست فكرة حديثة أو وليدة اليوم، بل إن خليفة المسلمين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان ينزل بنفسه ويعس في الليل ويحرس ويراقب، ومن خلال ذلك شاهد وسمع، وروى التاريخ لنا قصصا عن تلك المواقف، فكانت المحصلة:
أمة متقدمة، آمنة، متطورة، حتى قيل له: «حكمت فعدلت، فأمنت فنمت يا عمر». فأين نحن اليوم من هذه الثقافة؟ وهل يعتري مسؤولينا في الخليج والعالم العربي هذا الهاجس المقلق للإصلاح وكشف مواطن الخطأ والصواب؟!
إن الأمم لا تتقدم إلا برجال حريصين على شعبهم يستشعرون همومهم وآلامهم.. فيا ليتنا نقرأ كل يوم خبر مباغتة وزير أو رئيس لوزارة، وكشف تقصير وتقاعس وإهمال الموظفين في حق الوطن والمواطن، بدل أن نجعل الفساد يسرح ويمرح ويأكل الأخضر واليابس، فذلك الخبر يسعدنا ويطمئننا أكثر من أخبار وصور مملة عن زيارات واجتماعات فاخرة ومترفة.
أخيرا.. لكل مسؤول أقول: إن الله سبحانه وتعالى شرفك بأن حملك مسؤولية قضاء وإصلاح حوائج الناس وأمورهم، فلا تغب عن موظفيك كثيرا فيسري الفساد من تحتك وأنت لا تعلم، ولا تجعل الموظفين يرونك فقط حين تقع مصيبة أو مناسبة كبيرة «تترزز» فيها. كن قريباً منهم ومن آلامهم ومعاناتهم، لا تقرأها على شكل تقرير رسمي، بل اقرأها في عيونهم واسمعها من أفواههم.. حينها فقط ستحقق النجاح والشعبية والمجد، لك ولوطنك.. والله من وراء القصد.
كاتبة سعودية