أحيا العالم العام الماضي الذكرى المئتين لولادة تشارلز دارون، الذي كان يؤمن بأن الحياة عبارة عن صراع مع الأجناس القديمة من أجل أن تحل محلها الأجناس الجديدة، وكان يرى أن هذا الأمر ينطبق على الإنسان أيضاً.

غير أن الحقيقة الجديدة في عالم الصراع اليوم، هي أن التاريخ ليس حتمياً، ومن الصعب التنبؤ بمجرياته، فهناك دوماً الكثير من الاحتمالات للمستقبل، وكل احتمال منها يمثل حالة من حالات التوازن الجزئية، وأي أزمة تنشب في العالم ما هي إلا انفصال عن حالة التوازن تلك، وانضواء تحت لواء حالة توازن أخرى، في ما يسميه المحللون «مخروط الاحتمالات».

وبالنظر إلى هذا المخروط، يتبين لنا من قراءة سريعة له أن العلاقة الرئيسة في العالم، التي تستحق الرصد والمتابعة، هي العلاقة الأميركية الصينية، كما أن التحدي الرئيسي سيكمن في محاولة دمج الصين سلمياً في نظام الحوكمة العالمي، وهو الدمج الذي من المتوقع أن يغير النظام العالمي نفسه حينها.

لا شك أن التحول الذي طرأ على الصين نفسها هو التطور المهم في هذا السياق، وقد كتب الكثير حول عودة الصين إلى الساحة الدولية وما شابه ذلك، غير أني أود التركيز على ثلاث نقاط:

أولا؛ إحساس الصين بذاتها وكيانها، فعبر القرون الماضية، كان من واجب كل سلالة صينية أن تدون تاريخ السلالة التي قبلها، وقد تمت كتابة 24 تاريخاً للصين حتى الآن، كان آخرها تاريخ «سلالة كينغ»، التي حكمت الصين من عام 1644 وحتى عام 1911 عندما نشبت الثورة الجمهورية.

والآن وبعد مرور قرن تقريباً على ذلك التاريخ، يعكف المسؤولون الصينيون على كتابة التاريخ الرسمي لتلك الفترة. لا يوجد بلد أو حضارة في العالم يمتلك ذلك الإحساس بالاستمرارية والكينونة مثل الصين، غير أن إحساسها هذا يعتبر نقطة قوة، ونقطة ضعف أيضاً؛ فناحية القوة هي الثقة الكبيرة بالنفس التي تتمتع بها الصين.

وطالما صرح القادة الصينيون بأن الصين عليها أن تتعلم من دول العالم الأخرى، لكنها في النهاية ستكون لها رؤيتها الخاصة للمستقبل. أما نقطة الضعف فتكمن في الغرور، الذي يحول بين المؤسسات والأفكار الصينية، وبين اندماجها الحقيقي في العالم المعاصر المتنوع.

مما لا شك فيه أن الصينيين لا يتمنون تحويل غيرهم إلى تبني مناهجهم، بخلاف ما كانت عليه الحال مع أميركا في بداياتها، عندما كانت تعتقد أن «أمركة» العالم هي الوسيلة المثلى للسيطرة عليه، وترى أنها نجحت في هذا إلى حد كبير، فلغة العولمة الحالية أميركية، والأفكار التي تسود العالم حالياً معظمها أفكار أميركية، وهذا هو الفرق الجوهري بين الولايات المتحدة والصين.

لو نظرنا إلى الثقافات السائدة، لوجدنا أن الثقافة الأميركية عبارة عن خليط من الثقافات المتعددة، وأنا لا أظن أن الصين سوف تكون قادرة يوماً على توحيد العالم كما عليه الحال اليوم، لأن طريقة تفكيرها مختلفة تماماً ومتفردة، حتى عندما ستصبح الاقتصاد الأكبر في العالم، وهذا ما سيحدث على الأرجح خلال عقود قليلة.

ثانياً؛ التحضر والإعمار العجيب الذي تشهده الصين، فالسرعة التي يجري بها الإعمار والتمدن في الصين لم يشهدها بلد آخر في التاريخ البشري كله، غير أن المخططين في الصين يعلمون أنه لا توجد مساحة كافية من الأرض للبناء مثلما حدث في الولايات المتحدة، كما أن الصين تمتلك أراضي زراعية أقل من الهند.

وعلى الرغم من أنه توجد في الصين حالياً شبكة طرق سريعة أطول من تلك الموجودة في الولايات المتحدة، فإن الصينيين يعلمون يقيناً أنهم لو امتلكوا سيارات بالنسبة نفسها الموجودة في الولايات المتحدة، فإن العالم كله سيغلي، كما لو كان في مرجل. لهذا، ولعلمهم بأهمية الحفاظ على الأرض وعلى مصادر الطاقة، يعكف الصينيون على التخطيط لبناء مدن ضخمة، تستوعب كل منها عشرات الملايين من البشر.

وهذه المدن لن تنمو بشكل فوضوي، كما يحدث في مدن مثل مكسيكو سيتي أو لاغوس، ولكنها ستكون مصممة لاستيعاب أعداد البشر بسهولة، وستوفر لهم البنية التحتية الملائمة، مع بناء القطارات فائقة السرعة داخل تلك المدن وخارجها، والمطارات الضخمة وناطحات السحاب والمجمعات التقنية المتقدمة، التي تضم الجامعات ومعاهد الأبحاث والمنشآت الطليعية المساعدة.

ثالثاً؛ الثقافة السياسية في الصين، فعلى امتداد القرون السابقة نمت ثقافة سياسية معينة وتطورت، بحيث جعلت من الممكن حكم دولة بهذا الحجم القاري، بواسطة نخبة بيروقراطية قليلة العدد، وهي الحزب الشيوعي الذي لا يفتقر إلى الحماس والحس العميق بالمسؤولية الوطنية.

من المثير للاهتمام أن نعلم أنه خلال فترة حكم السلالتين »مينغ» و«كينغ»، كان ممنوعاً على أي مسؤول أن يعمل على بعد أقل من 400 ميل من مسقط رأسه، وذلك حتى لا يتعرض لضغوط من جانب أقاربه، ويضطر لمحاباتهم، وهذا يعني أنه بالنسبة لبلد صغير مثل سنغافورة مثلاً، فليس بالإمكان أن يحكمها سنغافوري.

لكن قبل عدة سنوات تغير هذا القانون في الصين، وتقريباً في معظم الحالات اليوم، فإن قادة المقاطعات هم من أبناء البلد، إلا في المقاطعات التي تتمتع بحكم ذاتي، حيث يتولى المنصب الثاني في الأهمية واحد من أبناء البلد، أما الأول فلا.

وعلى الرغم من أن السياسة ستتغير في الصين بشكل كبير في العقود المقبلة، خصوصاً مع حالة التمدن والإعمار الكبيرة التي تشهدها البلاد، فإن أساسيات الحكم الجوهرية، القائمة على هيمنة النخبة البيروقراطية على مقاليد السلطة، ليس من المرجح أن تتغير. دول نامية كثيرة في الوقت الحالي تدرس النموذج الصيني، على أمل أن تتعلم منها الحوكمة الرصينة، ولأول مرة يظهر في العالم منافس حقيقي للنموذج الغربي.

وزير خارجية سنغافورة

opinion@albayan.ae