قبل نحو عقد، كان الصحافي يلهث جريا وراء الاخبار والاحداث، بحثا عن معلومة جديدة تخدم فكرة موضوعه، وكان الصحافيون يتسابقون على التميز في ما ينشرون، ومازال بعضهم كذلك، لكن طوفان النشرات الاعلامية أو ما يسمى «البرس ريليز» التي انتشرت في الجسم الاعلامي مثل السرطان، جعل كثيرا من الصحافيين مدمنين على تلك النشرات، ينتظرون وصولها عبر البريد الالكتروني وهم خلف مكاتبهم.
لقد أوجدت تلك النشرات الاعلامية واقعا سلبيا وغريبا ودخيلا على الاعلام الميداني، من أبرز مظاهره حجب المعلومات، فقد اصبحت مكاتب العلاقات العامة التي تصدر تلك النشرات باسم مؤسسات وهيئات وشركات بعضها حكومي، هي المتحكم في تدفق الاخبار والمعلومات.
وهي التي تسمح وتقرر نوع وكم المعلومات المراد تدفقها، أحيانا بذكاء وأحيانا أكثر بغباء، إلى حد تشكيل حصار اعلامي على الصحافي ومنعه من الوصول إلى المعلومة التي يريد في الوقت المناسب، في حين أن تلك المكاتب تطارد الصحافي في أحيان أخرى من أجل نشر خبر بلا قيمة.
المشكلة التي يواجهها الصحافي أن عملاء تلك المكاتب، يعتمدون عليها في ادارة نشاطهم الاعلامي ويغلقون الباب في وجه الصحافي، رغم عدم إدراك ومعرفة تلك المكاتب بتاريخ وسجل تلك المؤسسات في السوق أو مجتمع الأعمال، ما يجعل المواد الاعلامية الصادرة عن تلك مشوهة ومبتورة في احيان كثيرة، ولا تحقق الغرض الاعلامي والاخباري منها، والامثلة على ذلك كثيرة يصل بعضها إلى حد الإثارة والسخرية.
ومع الايام تحول الصحافي إلى متلق للمعلومات، لا باحث عنها، ولا يستفزه الاعتداء على مهنته ومهمته، حتى صار اسيرا لتلك النشرات التجميلية والمزيفة للحقائق والمعلومات في كثير من إصداراتها، كسولا ومتراخيا عن مطاردة المعلومة والامساك بها، متذرعا بتلك الجدران التي تشكلها النشرات الاعلامية وتمنعه من الوصول إلى ما يريد، رغم التطور الهائل في تكنولوجيا وسائل الاتصال، واهمها الشبكة العنكبوتية والهاتف المتحرك، التي تتيح للاعلاميين متابعة الاحداث لحظة وقوعها، لكن البعض حول تلك الكنولوجيا إلى أداة للكسل لا للتحفيز والتميز.
وما يزيد الوضع تعقيدا هو استخدام نفوذ المال مع الاخبار المتدفقة، فبعض المكاتب التي تصدر تلك النشرات تتحكم في الحملات الاعلانية للعديد من المؤسسات والشركات، وتلجأ إلى الضغط على المؤسسات الاعلامية بالتصريح أو التلميح بان عدم نشر الاخبار الصادرة عنها سيحرم المؤسسة الاعلامية من الاعلان، وصولا إلى حد الابتزاز أحيانا.
كما تسعى تلك المكاتب من خلال اساليبها بالاغراء والابتزاز احيانا اخرى، إلى استغلال مساحات كبرى من زمن الاثير الاعلامي أو من صفحات الصحف، ليكون ذلك على حساب مواد اعلامية اكثر أهمية وغنى بالمعلومات.
ورغم ذلك الحصار الاعلامي، فان صحافيين مجتهدين يعشقون مهنتهم لا يستسلمون، بل تشكل تلك النشرات حافزا لهم يدفعهم إلى تحقيق التميز في عملهم الصحافي واختراق جدران الحصار، عبر الاصرار على الوصول إلى الحقيقة التي يسعى اليها القارئ ونشر المعلومة بمهنية وتميز.
الواقع يفرض على المؤسسات الاعلامية مواجهة هذا المرض الذي اصاب الجسم الاعلامي، عبر أمصال من التحفيز للصحافي ومقاومة طوفان تلك النشرات، ببناء سدود لمقاومتها، وليس من اجل حجب تدفقها، بل من اجل تحسينها وتجويدها، وتحويلها إلى أحد مصادر الصحافي لا مصدره الوحيد.