في الديمقراطيات العريقة، تكون الانتخابات مثل المصفاة التي تعمل على صقل ما هو موجود في الواقع من موازين القوى السياسية، وإفراز القوى القادرة على إدارة دفة البلاد لفترة من الزمن. وينتج عن ذلك أن يسلم الطرفان أو الأطراف بالنتائج. أما عندنا فقد تحولت الانتخابات العراقية الأخيرة إلى فرز الشرخ الموجود بين الكتل السياسية المتناحرة.

فالكتل الأربع الكبرى: ائتلاف دولة القانون، والائتلاف الوطني، والقائمة العراقية، والتحالف الكردي، وما يدور في فلكها من كتل صغيرة، أصبحت أكثر قوة مما مضى، ومستعدة لخوض حروب صغيرة فيما بينها.

كل قوة من هذه القوى أخذت تتخندق في مواقعها، وتتهيأ لكل طارئ. إنهم في الظاهر يتبادلون القُبل، ولكنهم في الحقيقة مستعدون لنهش بعضهم البعض.

وكل واحد منهم يعتبر نفسه المنقذ لبلد الخراب. ومعركة الوصول إلى سدة الحكم مغرية وتستحق كل الأثمان، لذا ينظر اللاعبون إلى الداخل وإلى الخارج، ليوجهوا بوصلاتهم.

وكل كتلة لها الاستعداد الكامل للتحالف حتى مع الشيطان من أجل الوصول إلى السلطة. الصدريون الذين ينادون على الدوام بخروج المحتل الأميركي أجروا استفتاءً خاصاً بهم، ورشحوا إبراهيم الجعفري وكأن ما جرى من انتخابات لا يعنيهم، دون الاهتمام لنتائجها: انتخابات داخل انتخابات. ودويلات داخل دولة. وتفجيرات داخل تفجيرات. الأصوات تنادي، وأخرى تلعن.

وهيئة العدالة والمساءلة لم تتوقف عن تخوين المرشحين الآخرين ولا تستبعد إحالتهم إلى المحاكم القضائية بحجة الانتماء إلى شبح اسمه حزب البعث. إنها معركة أسماك قرش حقيقة لا ترحم.

فأسماك القرش، كما يذكر العلماء المتخصصون، تستشعر الخطر بمجرد إحساسها بحركة غير منتظمة في البحر، لتنقض على العدو وتلتهمه. فقد صنف العلماء ما يربو على 350 صنفاً من أسماك القرش، وهو عدد الكتل السياسية في العراق الجديد. ولكن ما يميز أسماك القرش أنها تتغذى على الأسماك الحية والمحتضرة والميتة.

وهكذا تفعل الكتل الأربع الكبيرة، فهي مستعدة لالتهام أي شخص يقوم بحركة ما في بحر العراق. فهي مستعدة أن تلتهم أي شيء إذا ما شعرت بالتهديد. وكل كتلة لها مسوغاتها وتبريراتها وأجندتها وأسرارها عما فات.

لا تزال مواقف هذه الكتل غير واضحة بشأن من فاز ومن خسر في الانتخابات. وعمليات الإقصاء جارية على قدم وساق. ولا أحد قادر على تقديم التنازلات المطلوبة من أجل إنقاذ الديمقراطية التي حملها الاحتلال على طبق من أشلاء العراقيين. وما زال الجميع يحضر الحفلة الماجنة، ولاعبوها يتحينون إشعال شموع النصر. لماذا السلطة؟

أحد الناخبين الساخرين قال: إنني أنتخب من يعيد الكهرباء إلى بيتي! بالمناسبة الكهرباء لم تكن مدرجة في أي برنامج من برامج المرشحين. والناخب العراقي لا يرى النور في نهاية النفق، ولا خيار له سوى النظر باتجاه الغائب المجهول القادم من داخل الحدود أو من خارجها. فهو لا يزال يؤمن بأن الكهرباء وحدها هي التي تنير نهاية النفق ولا شيء آخر.

ولا يزال ينظر إلى أصبعه المبلل بحبر الانتخابات الأزرق، ويحاول تنظيفه كأي بقعة لاصقة. الخاسر الوحيد في هذه الانتخابات هو هذا الناخب الذي أصابه الملل من وعود الحكومات السابقة وفقد إيمانه.

وفي البحر، لا تعرف أسماك القرش نقاشاً آخر سوى التهام ما يقف في طريقها لأنها لا تستطيع أن تتخلى عن طباعها كما يفعل السياسيون العراقيون.