بالطبع سيتصور القارئ بأنني سوف أناقش مسلسل سنين ضياع الأمة العربية منذ تحررها من هيمنة الإمبراطورية العثمانية! كلا، فالأمر أخطر من ذلك بكثير.
فـ «سنين الضياع» و«نور» ليسا أكثر من مسلسلين تركيين تمت دبلجتهما باللهجة السورية وأصبحت العائلة العربية تنتظر موعده أمام شاشات التلفزيون بفارغ الصبر كما تنتظر عودة رب الأسرة الضال الذي تغيب عنها منذ فترة طويلة.
الحقيقة أن عملية الدبلجة هذه تؤكد في الوقت ذاته على انزلاقات قاتلة لهوية الأمة العربية التي لا نكف عن شراء أرخص السكاكين الأجنبية الأميركية والمكسيكية واليابانية والكورية والآن جاء دور التركية لنحرها من الوريد إلى الوريد.
والكل مشارك فيها؛ كلنا. ولكن آخر من كنا نتصور أنه سيشارك في عملية الذبح هذه الشعب السوري. لماذا؟ لأننا كنا منذ فتحنا أعيننا على الشاشة الفضية، والمسلسلات السورية تأسرنا بإتقان ممثليها لأدوارهم باللغة العربية الفصحى بطريقة مذهلة، حتى كنا نتصور أن الشخصيات التاريخية العربية والإسلامية ماثلة أمامنا بكل هيئتها.
ولنعترف بأنه حتى الممثلين المصريين والخليجيين لم يبلغوا في إتقان اللغة العربية الفصحى ما بلغه السوريون بالذات، خاصة فيما يتعلق بالتزامهم بنطق الحروف الثقيلة كالثاء والظاء والضاد والقاف أو في نبرة الصوت أو في الهيئة، أو بالتزامهم في اختيار نوعية المواضيع والقصص ذات الأهداف السامية.
ولكن يبدو أن هناك من يريد أن يطفئ هذا التألق. لا نعرف من، ولكن بلا شك هي المادة والجري وراء الربح المادي أيا كانت النتائج الثقافية والأخلاقية. صحيح أننا أمام زمن الانفتاح غير المقيد، وسوريا هي أيضا لها الحق في دخول قرية العولمة حتى لا تظل في آخر الركب، ولكن لا نقبل أن يبدأ ذلك بهدم ما تم بناؤه.
وحيث إن الخوف من هذه الدبلجة (وهي كلمة فرنسية: doublage) سواء للمسلسلات التركية أو المكسيكية أو الأميركية أو اليابانية ليس فقط من قدرتها بطريقة ذكية جدا على غرس الأفكار الغربية المرفوضة إسلاميا وعربيا وأخلاقيا في نفوس أجيالنا، وإنما في انتشار تقليعة استخدام اللهجة الدارجة بديلا عن اللغة العربية الأم في نقل الأعمال الغربية والأجنبية إلى شعوب الأمة العربية على يد مؤسسات مهمة يفترض أن تكون مسؤولة عن كل خطوة تخطوها.
الطامة الكبرى برزت قبل 14 عاما بالتمام والكمال، عندما قامت إحدى الشركات بدبلجة فيلم الأطفال الكرتوني العالمي «الملك الأسد» (1994) الذي أنتجته والت ديزني، من اللغة الإنجليزية إلى (اللهجة) المصرية. ثم راجت الفكرة، وتكررت التجربة مع أفلام كرتونية أخرى.
ودون الدخول في تفاصيل الموضوع من حيث نجاح أو عدم نجاح التجربة، إلا أن المشاهد العربي في المغرب وسوريا والعراق والخليج واليمن وعمان اضطر لشراء هذه النسخ المدبلجة باللهجة المصرية لعدم وجود نسخة (بلهجته هو أو بلغة عربية فصحى على أضعف تقدير).
صحيح أن معظم العرب يفهمون نوعا ما ظاهر اللهجة المصرية، وليس كل مفرداتها بالطبع، إلا أن مصر (أم الدنيا) والتي قادت وما زالت حركة الثقافة العربية منذ عصور طويلة ودافعت عن القومية العربية على يد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وعن اللغة العربية على يد المازني وطه حسين والعقاد بكل ما أوتوا من قوة، ليس مفترضا منها أن تسمح بترويج لهجة محلية محدودة على شعب مصر لا غير.
بالطبع لكل دولة عربية حريتها في اختيار ما تراه مناسبا لنفسها، ولكنها بذلك فتحت الباب للآخرين باعتماد اللهجة المحلية الدارجة بدلا من لغة القرآن الكريم المقروءة من المغرب العربي إلى منطقة الهلال الخصيب وشبه الجزيرة العربية مرورا بإيران وباكستان وأفغانستان وأندونيسيا في ترجمة الأعمال الأجنبية. وبدلا من أن نحارب يدا بيد وعلى كافة الجبهات لنشر اللغة العربية على كافة المستويات دون المساس باللهجات المحلية بالطبع، نجد البعض (بسوء أو بحسن نية) يروج للهجات محدودة الاستعمال.
قد يدافع آخر بقوله، لماذا لا تقوم كل دولة عربية بترجمة هذا الفيلم مثلا إلى لهجتها الخاصة بها؟ أو يقول آخر بأن هناك مسلسلات محلية لكل دولة عربية، فلماذا الاعتراض على دبلجة الأعمال الأجنبية؟ الفرق أننا عندما نترجم الأعمال الأدبية الغربية نلتزم دائما باللغة الفصحى وكذلك عند دبلجة الأعمال الفنية، دون أن نجعل من اللهجة المحلية الأساس.
أما التفكير في القيام بدبلحة أي عمل فني إلى 22 لهجة مختلفة بعدد الدول العربية، فهذا يعني الطامة الكبرى. علينا أن نشجع على استخدام اللغة العربية في كل مجالات حياتنا اليومية، لا أن نتفنن يوما بعد يوم في توسيع دائرة العامية وتهميش لغتنا التي عمرها آلاف السنوات؟
ألا نخاف أن تنتقل العدوى بعد فترة قصيرة إلى تأليف الكتب وقراءة نشرات الأخبار والتدريس في المؤسسات التعليمية باللهجات المحلية كل حسب دولته ولهجته؟
منذ زمن بعيد واللغة الإنجليزية تحاول ونجحت في إزاحة وطرد اللغة العربية من المدارس والجامعات والمؤسسات التربوية والثقافية ووسائل الإعلام لتحتل مواقعها التي تشبثت بها في كل زاوية، ونحن صامتون وكأننا جئنا من أدغال استراليا وأفريقيا وكأن لغتنا ليس لها أي دور تاريخي يذكر في بناء صرح حضارة وثقافة العالم بأسره.
والآن جاء دور اللهجات المحلية المحدودة الأفق لتساعد على نسف هذا الإرث التاريخي العظيم: لغة القرآن الكريم. فبعد أن قمنا بتلقين الطفل العربي من خلال دبلجة الأفلام الأجنبية باللهجة المصرية بأنه لم تعد هناك قيمة للغة القرآن الكريم، تطور الأمر وصرنا نترجم الأعمال الموجهة للكبار.
وهذا ما قامت به مؤسسات الفن في سوريا في الآونة الأخيرة من خلال دبلجة المسلسلين التركيين الهابطين: «سنين الضياع» و«نور»، وكأننا قد انتهينا للتو من حل كافة مشاكل وهموم الإنسان العربي ولم يعد لنا غير دبلجة الهموم التركية ونقلها إلى مستوى العائلة التي لم يعد ينقصها إلا تلك القصص المتدنية. وليتنا بقينا على دبلجة أفلام كرتون والت ديزني الرائعة، فهي على الأقل ذات مغزى ومعنى وهدف.
نحن ننصب بأيدينا لأنفسنا أفخاخا ونغلق أعيننا عن مكانها حتى نقع فيها. ونحن ننصب على أنفسنا وعلى أطفالنا مقابل كسب بعض الجنيهات أو الليرات أو الدولارات غير النظيفة لأنها ملوثة بدم ثقافة أجيالنا القادمة التي لن نترك لها سوى لغة ميتة كاللاتينية ولهجات مهترئة لا تستطيع أن تسد حتى حاجة حرف الضاد في اللغة العربية، وثقافة مكسيكية على أميركية على تركية على يابانية مشوهة نجترها كورق القات صباحا ومساء.
غدا بالتأكيد سوف تنتشر الظاهرة في كل المجالات، وسنجد أنفسنا ضائعين أمام شاشات التلفاز وأمام دبلجات لأفلام ومسلسلات أجنبية بعدد لهجات العالم العربي...
المهم، هاكونا متاتا..... (ومعناها باللغة السواحلية: «ما فيش مشكلة»)®. فإذا كان رب البيت بالدف ضاربا.