اذا كان اللبنانيون أنفسهم باتوا يعترفون بأنهم لم يعودوا قادرين على الفهم الجيد للتعقيدات التي دخلتها أزمتهم السياسية، فإنه ليس من عتب على المتابعين من غير اللبنانيين، خصوصاً الأصدقاء منهم والمحبين والغيارى إطلاق المزيد من الأسئلة لفهم ما يجري ولاستيعاب العناصر الجديدة التي دخلت على خط التسوية فزادتها تعقيدا.
المفارقة العجيبة الغريبة ان الطرفين الموالاة والمعارضة اجمعا على العماد ميشال سليمان رئيسا للجمهورية، ولكن الأعجب ان كل فريق يتهم الآخر بأنه يعرقل وصول قائد الجيش لسدة الرئاسة وكل فريق له منطقه في هذا المجال الذي يدافع فيه عن وجهة نظره لتأكيد روح التأمر عند الفريق الآخر.
وهكذا تستمر دوامة القلق التي تلف اللبنانيين المتعطشين لحل يرسخ الحل، ويتطلعون إلى مخرج سليم ولو على طريقة أغنية فيروز «تعا ولا تجي» الذي ترجموه في أسبوع الأعياد بالإصرار على الفرح وعدم الاكتراث لتهديدات السياسيين، ومواقفهم التصعيدية وتصريحاتهم العنترية.
الملفت ان معظم الأطراف السياسية المتنافسة على السلطة متمسكة بمنظومة مصطلحات تستعملها في كل شاردة وواردة، فالموالاة تقول إنها متمسكة بالسيادة والحرية والاستقلال، والمعارضة تؤكد انها متمسكة بالسيادة والحرية والاستقلال، ولكن هذه الأطراف التي يوحدها الشعار والهدف تفترق في التنفيذ وتتباعد إلى حد التخوين.
فإذا كانت الموالاة لا تفوت أي فرصة باتهام المعارضة بفرية العمالة لسوريا تارة ولإيران طورا آخر، فإن المعارضة بدورها لا تقصر باتهام الموالاة بالعمالة لأميركا والعمل لحساب إسرائيل خصوصاً في الحرب الأخيرة على لبنان، وهكذا يستيقظ اللبنانيون صباح كل يوم موجة جديدة من لائحة الاتهامات المتبادلة بين أبناء الوطن الواحد.
أكثر ما يستفز اللبنانيين غير المحسوبين على طرفي المعارضة والموالاة ان زعماء كل طرف «يربحون جميلة» للناس أنهم حريصون على السلم الأهلي ولم يسمحوا بحصول حرب أهلية بين الشوارع والإحياء وسكان العمارة الواحدة.
وانهم ضحوا أحيانا ودائما بمصالحهم الخاصة والذاتية لإيقاف حرب كانت ستأكل الأخضر واليابس للحفاظ على مصالح الناس وحقنا لدمائهم وضربا للفتنة التي كان وما زال البعض في الخارج يعمل على إيقاظها ويتمنى ان تحصل وان تسيل الدماء، أي دماء الأبرياء والفقراء ويتشرد المساكين في الشوارع كما حصل في نهر البارد بلا مأوى ولا احد يسأل عن معاناتهم ولا احد ينتبه لمأساتهم المتفاقمة والمتصاعدة في هذا الشتاء القاسي كبعض القلوب الخالية من الرحمة والشفقة.
المضحك المبكي ان هذا الصراع الدائر بلا أي أفق في لبنان يجد من يتعاطف معه من كلا الطرفين، ويتعامل معه على انه القضاء والقدر، والمضحك المبكي ايضا ان عموم الجماهير المتحمسة بين التيارين المتنازعين والمتحاربين تسير خلف قياداتها المتقلبة والمتغيرة بلا أي وخز للضمير فهي تصفق لزعيمها ومستعدة للموت من اجل رفع صورته في الشوارع، والدخول بمعارك طاحنة من اجل رفع هذه الصورة على عمود كهرباء أو جدران بناية صماء.
الجماهير الغفيرة مستعدة للغفران لقائدها في لبنان سواء اخطأ ام لم يخطأ ومستعدة لمسامحته على زلاته وتقلباته وتبدلاته الكبيرة والصغيرة، حتى لو قرر بيعهم في أي سوق من أسواق النخاسة، فهذا النموذج من القيادات معمر كشجر الأرز في أعالي قمم الجبال التي تكللها حاليا الثلوج، وهذه الجماهير المقدودة من السياسة الطائفية على استعداد لان تجعل من المجرم قديسا ومن السارق نبيلا من نبلاء العصر.
مضى حوالي الشهرين على فراغ سدة الرئاسة اللبنانية بعد انتهاء ولاية الرئيس لحود، وحتى هذه اللحظة لم تفلح الوساطات الفرنسية والسورية والكونية من التوصل إلى حل، رغم الاتفاق على شخص الرئيس الا ان بعض العارفين يذهب إلى القول ان لحود هو آخر رئيس للبنان.
واذا أخذنا بهذه النظرية فأن هذا البلد الجميل الذي ادخله بعض الطبقة السياسية في دائرة تعقيدات أزمة المنطقة فقد صار لزاما على اللبنانيين انتظار حلول الهدوء في العراق وفلسطين وأفغانستان وبورما وكينيا والصومال وباكستان، خصوصا ان محللا سياسيا مفوها ربط الاتفاق في لبنان بالازمة الباكستانية اثر مقتل بنازير بوتو منذ أيام، وبهذا يصدق المثل اللبناني اللئيم « عيش يا كديش حتى ينبت الحشيش ».